كتاب عربي 21

القمة.. ما أشبه اليوم بالبارحة!

طارق أوشن
1300x600
1300x600
"تحتضن بلادنا اليوم بكل فخر واعتزاز، وكما تعلمون جميعكم، القمة العربية التي طال انتظارها، قمة الأمل والعمل، قمة ليست كسابقاتها، قمة لمستقبل عربي أفضل. نعم، قمة الأجيال الصاعدة والشباب، فرحة المستقبل. فمرحبا بالأشقاء العرب في بلادهم تونس".

على هذه الخلفية الإذاعية، تنطلق أحداث الفيلم التونسي "فتّريّة" (2019) للمخرج وليد الطايع، الذي جعل من يوم احتضان تونس لمجريات مؤتمر القمة العربية نهاية أيار/ مايو 2004، زمنا لأحداث فيلمه الساخر من القمم ومخرجاتها وتأثيرها على حياة الناس البسطاء، في وقت كانت فيه أبواق نظام ابن علي لا تكف عن تكرار لازمة كون تنظيم القمة العربية يعد نجاحا في حد ذاته، في حين كانت فيه شخصيات الفيلم تكافح دفاعا عن حقها في البقاء.

فوسط هذه الانشغالات السياسية الكبرى للنظام ورئيسه، تقدّم كاميرا وليد الطايع صورة مغايرة تماما عن تونس الشعب، صورة مجتمع منشغل بالمعيش اليومي حدّ الإرهاق في حرب لا هوادة فيها لتأمين الحاجيات الأساسية، في لا مبالاة تامة بالقمم وخطب القادة العرب الممجوجة والمكرورة التي لا تشنف الأسماع إلا عبر أثير الإذاعة وشاشة التلفزيون.

من فيلم "فتّريّة"..

مدير مستشفى البستان: تعرف يا حاج. أنا راني حاسس بيك. ونحبك تفهم اننا كلنا في خدمتكم. لكن هذا مستشفى عندو طاقة استيعاب ومسائل محدودة. مننجموش إننا نتجاوزوها.

المريض: مش هذا ايلي يقولوا فيه في التلفزة.

مدير مستشفى البستان: تعرف. في مرة مشيت لبعثة لبلاد في أفريقيا. مرضت وهزوني لسبيطارهم. غرفة العمليات كانت فالغابة. نعام يا سيدي. في الليل خرجوا علينا الحيوانات وتشوف أنت فالتماسيح ولحنوشا والضبوعا وأنا كنت باش نموت بالرعب. ونشوف هكا في فيل من ورا الشبك هيك يعمل لي بالخرطوم نتاعو. وأنا نغيث ولا نغاث. وقتها فهمت إن حنا في جنة وفيها بريكاجي، وحمدت ربي على بلادنا والخير لي رانا فيه. اش بيك؟ أكثر من 80 المية من التوانسة ملاكة والتعليم والقروض والسيارة الشعبية وحرية المرأة يا سيدي. وما تنساش في بالك زادة أنو احنا عندنا الأمن والاستقرار وعندنا كذلك السياحة. احنا عندنا القمة العربية توّا والعام الجاي بإذن الله عندنا قمة المعلومات. احنا مثال يحتذى به. نقطة وارجع للسطر.
الأمة" في أوهن درجات قوتها وفي أقسى مراحل تشتتها فرديا وجماعيا، فالعدو لم يعد مشتركا، والأولويات صارت مشتتة، والسباق نحو الانفلات من القاع "الحضاري" صار فرديا ولو على حساب المشترَك القومي، والقرار العربي أصبح أكثر من أي وقت مضى، مرتهنا لتحالفات إقليمية ودولية لا تملك للاجتماع العربي ودّا أو رغبة في الإنجاح

خلف باب مكتب مدير المستشفى رداء بنفسجي وعليه صور زين العابدين بن علي. لا صوت يعلو على صوت الإعلام البنفسجي، والجميع حاملون لواء نشر خطابه وترويجه بين عموم المواطنين وعامة الناس.

في يومي الفاتح والثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، ستحتضن الجزائر، وهي الجارة الغربية لتونس، الدورة الحادية والثلاثين للقمة العربية بعد تأجيلات متتالية تداخل فيها الصحي بالسياسي. وبرغم مرور ما يقارب عقدين عن دورة تونس السادسة عشرة، لا يزال الخطاب الرسمي الذي يملأ الأجواء صخبا، هو ذاته تلك الخلفية الإذاعية التي افتتح بها فيلم "فتّريّة" أحداثه، حيث التباهي بالقمة ومخرجاتها، وتأكيد تحدياتها "الوجودية" التي ستنال منها عزيمة القادة والزعماء دون نسيان التبشير بنجاحها القبلي.

واقع الأمر، يؤكد أن لا أحد من شعوب المنطقة العربية مهتم بما سيصدر عن الجمع الكبير. فالكل يعلم مسبقا أن الشرخ بين "الأشقاء" كبير ولمّ الشمل، الذي اتُّخِذ شعارا للقمة، يحتاج معجزة في زمن انتهت فيه المعجزات، واستشرى فيه العقم في الرحم العربي العاجز عن استيلاد "بطل" قومي قادر على جمع الكلمة ورصّ الصفوف.

"الأمة" في أوهن درجات قوتها وفي أقسى مراحل تشتتها فرديا وجماعيا، فالعدو لم يعد مشتركا، والأولويات صارت مشتتة والسباق نحو الانفلات من القاع "الحضاري" صار فرديا ولو على حساب المشترَك القومي، والقرار العربي أصبح أكثر من أي وقت مضى مرتهنا لتحالفات إقليمية ودولية، لا تملك للاجتماع العربي ودّا أو رغبة في الإنجاح. وبالرغم من ذلك، تستمر الدعاية الإعلامية الرسمية في التهليل والتبشير بنجاح "قمة" لا أحد يهتم بمجرياتها غير "بيروقراطيي" الجامعة العربية، باعتبارها مصدر رزق رغيد وذريعة مثلى للسفر والاستجمام والتناوب على استوديوهات نشرات الأخبار والصفحات الأولى، لمن لا يزال من الصحافة الورقية مقاوما لمسلسل الإفلاس والإغلاقات. لقد بشرنا الأمين العام المساعد للجامعة حسام زكي بالنجاح في تنظيم قمة بلا ورق لأول مرة في تاريخها.

على الصفحة الأولى من عدد يوم 22 أيار/ مايو 2004 لجريدة الصباح نقرأ عناوين بالبنط العريض: قمة المنعرج، التزام تونس الثابت بتكريس الحوار بين الدول العربية وسعي لتفعيل منظومة العمل العربي المشترك، ابن علي يشرف اليوم على افتتاح القمة العربية، هذه انتظارات الشارع التونسي من القمة، الصباح تستطلع آراء سفراء عرب.

أما على الصفحة نفسها من جريدة الشروق لعدد اليوم نفسه، فنطالع بالبنط العريض أيضا: مرحبا بالأشقاء في أرض اللقاء، قمة الانتظارات الكبيرة والحسم التاريخي، ابن علي يشرف اليوم على افتتاح القمة العربية.

وعلى باب مستشفى البستان المتهالك لافتة مكتوب عليها "مستشفى البستان يحتفل في نخوة واعتزاز بالقمة العربية". وعلى الميزان التطبيلي نفسه، نقرأ على سبورة معلقة على باب مدرسة ابتدائية "إعلام للأولياء: تأجل الاجتماع بمناسبة القمة العربية المجيدة". وفي الشوارع والطرقات لافتات اكتسحت المنظر العام، وعليها: "تونس العروبة والأصالة والتفتح"، أو "رهان العهد الجديد هو الوحدة العربية"، وأعلام ترفرف وتزين المقر المخملي المحتضن للقمة وأشغالها.
شكل سعي البلدان المنظمة للقمم إلى تأمين حضور أكبر عدد من "الزعماء" الثابت الوحيد منذ انطلاق مسلسلها، حيث كان "زعيم" البلد المنظم يعدّ الحضور الكثيف انتصارا لـ"زعامته"، وتأكيدا لهالته القيادية التي يسعى لتكريسها في أذهان أتباعه ورعاياه. لأجل ذلك، تحولت القمم نفسها إلى مجرد "كلام فارغ" تلوكه الأبواق الإعلامية، وتدبجه الخطابات الافتتاحية والبيانات الختامية

هي كتابات من محبرة تمجيد قائد "العهد الجديد" نفسها، والتسبيح بحمده والتهليل لحكمته و"زعامته" للأمة، التي تنادت للاجتماع تحت "إمرته"، بعد أن أرجئت القمة التي كانت مقررة للانعقاد في آذار/ مارس، بدعوى عرقلة بعض الحكومات العربية خطة الإصلاحات. يومها، حضر أربعة عشر "زعيما"، وغاب الرئيس ياسر عرفات المحاصر في مقر المقاطعة، ومعه غاب ولي العهد السعودي وأمير الكويت وملك البحرين ورئيس دولة الإمارات. تونس كانت ترغب في حضور أكثر عدد ممكن من القادة تفاديا للفشل، الذي توقعه الرئيس المصري حسني مبارك، بوصفه القمة إذا ما غاب عنها الكثيرون بكونها مجرد "كلام فارغ". ما أشبه اليوم بالبارحة!

لقد شكل سعي البلدان المنظمة للقمم إلى تأمين حضور أكبر عدد من "الزعماء" الثابت الوحيد منذ انطلاق مسلسلها، حيث كان "زعيم" البلد المنظم يعدّ الحضور الكثيف انتصارا لـ"زعامته" وتأكيدا لهالته القيادية، التي يسعى لتكريسها في أذهان أتباعه ورعاياه. لأجل ذلك، تحولت القمم نفسها إلى مجرد "كلام فارغ" تلوكه الأبواق الإعلامية، وتدبجه الخطابات الافتتاحية والبيانات الختامية لينفض الجمع كما جاء؛ بلا "مصالحات" منتظرة لرصّ الصفوف أو قرارات حاسمة لردع "الأعداء". هي في الأول والآخر مجرد جعجعة بلا طحين.

وتستمر الخلفية الإذاعية في التطبيل في فيلم "فتّريّة": هذه القمة، إن دلّت على شيء، فإنما تدل على الرعاية الموصولة والعناية الفائقة من لدن سيادة رئيس الجمهورية زين العابدين بن علي الذي هو في الحقيقة، حريص كل الحرص على تشبث تونس.

ويواصل آخر: نجاح باهر للقمة العربية بتونس، وإشادة عربية ودولية بمواقف الرئيس زين العابدين بن علي وقيّم السابع من نوفمبر في بلد الفرح الدائم.

كلمة "فتّريّة" هي من أصيل المقول اليومي التونسي، وتستعمل خاصة حين تختلط الأمور، وتتداخل الوضعيات وتخرج عن السيطرة وتصبح الحلول بعيدة المنال. هكذا انتهت القمة، وسقط ابن علي بعدها بسنوات، وغيّبت "الثورات" والانقلابات والموت كثيرا ممن شاركوا فيها، لكن أحوال الناس لا تزال كما كانت، بل ربما صارت أشد سوءا كما هي أحوال "الأمة" جمعاء.
هكذا انتهت القمة وسقط ابن علي بعدها بسنوات، وغيّبت "الثورات" والانقلابات والموت كثيرا ممن شاركوا فيها، لكن أحوال الناس لا تزال كما كانت، بل ربما صارت أشد سوءا كما هي أحوال "الأمة" جمعاء

كما بدأت القمة انتهت؛ الخطابات نفسها، البيانات نفسها، والعجز المزمن نفسه.

كما بدأت القمة انتهت؛ لا أثر للبيانات ولتحليلات "الخبراء" على حياة الناس، حيث عُقِدت وحيث ستُعقَد، وحيثما تابعها المتابعون أو أعرضوا عن أشغالها، وشاحوا بوجوههم وأسماعهم بعيدا.

وحده قِدر الغضب الشعبي الكامن في النفوس كان يغلي، وحجم الأزمة المجتمعية والاقتصادية يرتفع ويتصاعد بعيدا عن النسخة البنفسجية، التي يقدمها الإعلام التابع المأجور حتى انفجرت الأوضاع سنوات قليلة بعد ذلك، لتنهي حكم العهد النوفمبري، وتتمدد لكنس أنظمة كثير ممن حضروا القمة وانشغلوا عن أوضاع الناس.

لم يكن لدى القائمين على أرزاق ورقاب العباد وقت لاستقراء الإشارات واستباق الانفجار، فقد كانوا مشغولين يومها بتنظيم القمة العربية وبترتيباتها واستقبال الوفود المشاركة، والتباهي باحتضانها لقمّة مجتمع المعلومات في السنة التالية. تونس كانت يومها، في الإعلام والخطاب الرسميين، قبلة للعالم ونموذجا يحتذى. ما أشبه اليوم بالبارحة!
التعليقات (2)
غزاوي
الجمعة، 28-10-2022 08:07 م
مجرد تساؤل. ما العمل !!!؟؟؟ ما قاله الكاتب وغيره عن حال "الأمة" صحيح وقد لخصه بما نصه: "الأمة" في أوهن درجات قوتها وفي أقسى (وأقصى) مراحل تشتتها فرديا وجماعيا" انتهى الاقتباس. لكن كلهم لم يجد من الحلول سوى الانتقاد. ولا أحد منهم وضع النقاط فوق وتحت الحروف، وسمى الأسماء بمسمياتها. وهذا من أهم أسباب هذا الوضع الحالي "للأمة". الدول العربية ثلاثة: 1- دول لم تستسلم ومازلت تقاوم وتسعى لغد أفضل. 2- دول لا تعترف معنى للمقاومة، فاستسلمت للعدو "الأمة" لتحمي عروشها وتستأسد به على بعضها. 3- دول أنانية ومشاكسة، حرفتها وضع العصا في العجلة، لأنها تخشى دورانها والانتقال إلى مكان بديل عن مكانها. بالعودة إلى قمة الجزائر، كنت أظن وكثير غيري أن إفرازات جائحة كورونا والعملية الروسية في أوكرانيا ومسعى الجزائر للم شمل العرب على الحد الأدنى، كما فعلت مع الفلسطينيين، كفيل بأن يجعل الذهنيات تستفيق وتتغير، لكني للأسف، أرى أنه ما زال فينا من يعشق الفشل والاستسلام، ويبغض النجاح والمقاومة. بل أدانوا المقاومة وتبرؤوا منها، وأشادوا بالعدو واستقبلوه بالأحضان. أخيرا، الكاتب غابت عنه كل القمم العادية (31) والاستثنائية (18) وأثار فقط قمة تونس وقمة الجزائر، لحاجة في نفس يعقوب.
إيزم
الجمعة، 28-10-2022 02:16 م
تحضرني جملة "القذافي" مخاطبا أصحاب الجلالة و الفخامة و السمو و المعالي و السعادة و هي بالمناسبة تلخص كل شيء عن القمم العربية : *ما فيه حاجة تجمعنا ابدا .. إلا القاعة هاذي ..* فيبتسم و في الخلفية يظهر باقي "الزعماء" يضحكون. وكم ذا ب(القمم) من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء مع الاعتذار للمتنبي