هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قال الخبير العسكري والاستراتيجي، العميد صفوت الزيات، إن "الغرب هيأ الظروف كي تصبح أوكرانيا بمثابة "أفغانستان أوروبا"، حيث تحوّلت الأمور من حرب خاطفة سريعة بنظام الصدمة والرعب إلى حرب استنزاف طاحنة قضت على جزء كبير من القدرات القتالية والبشرية الروسية".
وأكد، في مقابلة خاصة مع "عربي21"، أن "أوكرانيا ستكون سببا في محنة كبيرة وعميقة لروسيا، على غرار ما حدث للسوفييت في أفغانستان نهاية عقد الثمانينات، خاصة إذا لم تتغير القيادة السياسية العليا في روسيا"، مشيرا إلى أن "القوى الغربية باتت اليوم أكثر توحدا وقربا وصلابة".
وشدّد "الزيات" على أن "ضمّ 4 مناطق أوكرانية إلى الاتحاد الروسي سيصبح عبئا كبيرا للغاية على روسيا، التي سيجري استنزافها بشكل متواصل"، منوها إلى أن "موسكو فتحت أمام العالم أبوابا لا أحد يعرف إلى أين ستنتهي بلا شك؟".
وتاليا نص المقابلة الخاصة مع "عربي21":
بعد مرور نحو 8 أشهر على اندلاعها، كيف ترى ما وصلت إليه أزمة الحرب الروسية- الأوكرانية اليوم؟
نستطيع القول إنها وصلت إلى طريق مسدود، وربما هذا يعود بشكل كبير إلى الأخطاء الاستراتيجية التي صاحبت قرار الغزو، فضلا عن عدم إدراك الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لبعض الأمور الهامة، كعدم إدراكه لحدود قدراته العسكرية التقليدية، بسبب أن الغرب ترك له حرية التصرف في جورجيا عام 2008، وضم شبه جزيرة القرم في 2014، وفي سوريا عام 2015.
لقد كانت هناك أوجه قصور في نظام القيادة والسيطرة في القوات الروسية، بالإضافة إلى عيوب خطيرة في المسائل اللوجستية وأنظمة الاستخبارات، وربما هذا يعود بشكل كبير إلى العقيدة الروسية التي ربما طغى عليها المفهوم النووي في حل مسائل التهديدات الوجودية للاتحاد الروسي، وهو ما أدى إلى إهمال الاستراتيجيات والأسلوب العملياتي والتكتيكات للجيش الروسي، وهذا بدا واضحا في الأيام الأولى لحرب أوكرانيا عندما فشل في اقتحام كييف من الشمال الغربي ومن الغرب.
القيادة الروسية اعتقدت أنه يمكنها خلال أيام معدودة لن تتجاوز الأسبوع إسقاط نظام الحكم في أوكرانيا، وتولية حكومة دُمية تتبع لها، وتصوّرت أن تلك الحرب ستكون "خاطفة" من أجل القضاء على ما تصفه بـ "النازية الجديدة في أوكرانيا"، وهي اعتمدت بشكل أو آخر على ما نسميه "استراتيجية الصدمة والرعب"، من خلال إطلاق حجم كبير من القوة النيرانية في فترة زمنية قليلة، وضد مناطق محددة بإنزال أكبر قدر من التدمير الذي يهدف لإخضاع الخصم، وبالتالي هذا الأمر فشل بشكل واضح.
وبدا أن الغرب كان أكثر ذكاء عندما بدأ في تهيئة الظروف التي جعلت أوكرانيا بمثابة "أفغانستان أوروبا".
والآن تحوّلت الأمور من حرب خاطفة سريعة صاعقة بنظام الصدمة والرعب إلى حرب استنزاف طاحنة ربما أتت على جزء كبير من القدرة القتالية والقوة البشرية الروسية التي دخلت في بدايات الغزو إلى أوكرانيا؛ إذ وصل حجم الخسائر إلى أكثر من 30% من المعدات والجنود الروس.
وهنا أود تذكير القارئ بالعبارة التي قالها الجنرال الأمريكي ديفيد بتريوس، التي طالب فيها ضباط أركانه في الفرقة 101 باقتحام جوي الأمريكية، في اللحظات الأولي لدخولهم العاصمة العراقية بغداد عام 2003، بالرد على سؤاله: "أخبروني بالله عليكم كيف سينتهي هذا الأمر؟!"، وهو ما يشير للتردد والإقرار بصعوبة الحكم والتحليل لوضع هو الأكثر عتمة وضبابية، كما كان الحال في الشهور القليلة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، والتي شهدت تراجعا مشينا للأوروبيين أمام غطرسة النازيين.
وأنا في معظم مقابلاتي التلفزيونية والإذاعية منذ اللحظة الأولى لحرب أوكرانيا كنت أقول لمحاوري عبارة "بتريوس" -الذي أعتبره من أفضل الجنرالات العسكريين الأمريكيين- لأن الأمر كان، وما زال، مشوشا وغير محسوم، وكانت الاحتمالات المظلمة والصعبة قائمة.
هل القيادة العسكرية الروسية تتحمل المسؤولية عن ذلك؟
أصابع الاتهام توجّه بالدرجة الأولى ليس للجنرالات الروس، ولكن للرئيس بوتين، الذي أخطأ كثيرا في فهم قدراته التقليدية العسكرية، وأخطأ كثيرا في فهم صلابة وعزيمة وإرادة الشعب الأوكراني عندما يتعرض لتهديد وجودي.
والأمر الأخطر أنه أخطأ كثيرا في مدى تصوره لدرجة تماسك حلف "الناتو" ولدور الولايات المتحدة الأمريكية، الذي بلا شك كان بدأ يهتز كثيرا في الشهور التي سبقت الغزو بدعوة الأوروبيين آنذاك إلى جيش أوروبي موحد، وحديث الرئيس ماكرون على سبيل المثال أن "الناتو أصبح عقلا ميتا".
وما تقييمكم لموازين القوى على الأرض في الوقت الحالي؟
التوازن الكمّي سواء في المعدات والقوة البشرية، وحجم الاحتياطيات المتوفر، وربما أيضا نوعية الأسلحة القتالية التي تُستخدم في مسرح العمليات، يشير بلا شك إلى أنه ما زال لدى الروس تفوق عسكري كمّي بالدرجة الأولى أكثر مما هو نوعي في ميادين القتال. لكن الأمر الآن ربما يتجه إلى تأثير ما يسمى طبيعة العمليات القتالية في ميادين المعركة.
هذه الأمور الآن تُدار بما نسميه الحروب غير المتماثلة، بمعنى أنه أمام أنظمة القتال الضخمة ذات البصمة الرادارية الكبيرة وذات القدرات النيرانية البعيدة سيكون من الأفضل للخصم أن يستغل ذلك من خلال استخدام أنظمة تسليح أسرع حركية وأكثر دقة وخفة، وأكثر تحركا ومناورة على الأرض، وبالتالي يمكننا القول إن طبيعة حرب الاستنزاف التي تجري حاليا وأشكال المناورة التي تتم على الأرض ربما ترجح الجانب الأوكراني بشكل أو بآخر.
وماذا عن التقديرات التي كانت تشير في السابق لانتصار روسيا في هذه الحرب؟
التقديرات التي بدأت أكثر تحيزا للجانب الروسي في الإسراع بإنهاء العملية القتالية أصبحت الآن في أدراج الرياح. والغرب على ما يبدو أدار الأزمة بكفاءة كبيرة عبر إرسال أنظمة ذات حركية عالية ودقة كبيرة وقدرة على الإصابة من مسافات متنوعة، مع دعم استخباراتي على مدار الساعة من قِبل الناتو وواشنطن تحديدا. وأوكرانيا حققت قدرا كبيرا من التوازن مع الجانب الروسي بخصوص الخلل في التوازن الكمّي؛ بفضل نوعية الأسلحة، والدعم الاستخباراتي والمعلوماتي الغربي.
في الآونة الأخيرة، نستطيع القول إن هناك بلا شك مبادأة عملياتية على الأرض، عندما نجح الأوكرانيون في شنّ هجومهم المُضاد الكبير والضخم في خيرسون في أواخر آب/ أغسطس الماضي، ثم فوجئنا بعد أسبوع تحديدا بشنّ هجوم سريع وحاسم في اتجاه خاركيف، واقترابه من شمال دونيتسك وغرب لوغانسك، وهذا يدل على أنهم يمارسون نوعين من الحروب؛ "حرب استنزاف" و"حرب مدفعية" في الجنوب، بخلاف الهجمات المُضادة التي ربما تحقق نصرا إلى حد كبير، لكن لديهم ما نسميه فضيلة الصمت العملياتي، بمعنى أنهم لا يتكلمون كيف يتقدمون؟ خاصة بعد أن أنشأوا رأس جسر عبر نهر انجليس في غرب خيرسون.
وبينما على الجانب الآخر في خاركيف، نحن نشاهد معارك ومناورة حاسمة، وربما استعراض لكيفية عمل الأسلحة المشتركة في تعاونها خلال العمليات بين القوات البرية، وعمليات دعم النيران، سواء من القوات الجوية أو من المدفعيات، مع دعم استخباراتي ملحوظ، وهذه العوامل جعلت بوتين يستشعر أن زخم القتال لديه، وحجم الخسائر والانهيار في معنويات قواته، أصبح لا يُبشّر بمزيد من التقدم.
لكن ما دلالة ذلك؟
يكفي أن أشير لك إلى أن مجلس الدوما (البرلمان الروسي) أقرّ، قبل أيام، تشريعا ينص على أحكام بالسجن تصل إلى 15 عاما لجرائم تتعلق بالحرب بما في ذلك الاستسلام، حيث وضع عقوبات تصل إلى حد السجن 10 سنوات للجنود الذين يغادرون ميدان المعركة، أو الذين يقومون بتخريب أسلحتهم عمدا، أو الذين يلجأون للفرار والانشقاق عن وحداتهم العسكرية. مثل هذا الأمر مؤشر واضح لمدى الانهيار المعنوي الكبير في الجانب الروسي، وهو دفع الرئيس بوتين لقلب الطاولة على الجميع عندما بدأ في مسألة التعبئة الجزئية، التي كنّا ننتظر أن تكون "تعبئة عامة" في خطاب 9 أيار/ مايو الماضي يوم ما يسمى عيد النصر الروسي.
لكن بوتين كان مترددا تحت ضغط تقدم الأوكرانيين، ويبدو أنه عاد إلى مسألة التعبئة العامة، ولكن بنوع مستتر تحت ما يسمى "التعبئة الجزئية"، ثم بدأ يشرع في التهديد باستخدام أسلحة الدمار الشامل، خاصة الأسلحة النووية التكتيكية، ثم جاء قرار الضمّ.
تلك التطورات تُعبّر عن أن العسكرية الروسية لم تنصف الرئيس بوتين، التي لو كانت حققت سريعا ما أراده في الأيام الأولى للحرب لما كان وصل إلى هذا التردي من القرارات الاستراتيجية التي كان آخرها ضمّ 4 مناطق أوكرانية إلى الاتحاد الروسي، في مشهد بلا شك حزين، ليس لفقدان أوكرانيا جزءا من أراضيها، ولكن لفقدان قوة عظمى -على الأقل من الناحية العسكرية- لقدر كبير من الصبر الاستراتيجي والروية، وبالتالي فتحت موسكو أمام العالم أبوابا لا أحد يعرف إلى أين ستنتهي بلا شك؟
وبالتالي إلى أي مدى نجحت روسيا في مسار ضم أجزاء واسعة من أوكرانيا بعد الاستفتاء الأخير؟
مشهد الضم الحالي كان مشهدا يثير شكوكا كبيرة، ويطرح حالة من المعضلة الاستراتيجية والتعثر الشديد لدي الرئيس بوتين على نحو خاص. لقد مرت مسألة ضم شبه جزيرة القرم بسلام إلى حد ما لصالح الجانب الروسي ودون دماء أو قتال، لكن هذا الوضع يختلف تماما اليوم، خاصة أن الهجوم الأوكراني يحقق نجاحا كبيرا في هذه المناطق الأربع، خاصة في ظل عمليات التوسع التي تتم على مدار الساعة، وهناك خسائر تحدث في صفوف بعض الشخصيات الروسية الرئيسية خلال الأيام القليلة الماضية من خلال قصف أهداف محكمة داخل مدينة خيرسون.
لذلك، علينا القول إن هذا الضمّ ربما سيصبح عبئا كبيرا للغاية على الجانب الروسي، والأهم من ذلك هناك مَن يتسم بالهدوء في واشنطن، ومَن يمتلك ثقة أكبر في بروكسل بأنهم بدأوا في تحويل أوكرانيا تدريجيا إلى مستنقع سيستنزف الاتحاد الروسي بشكل متواصل، وهذا ما سيثير هواجس الهزيمة السوفييتية في أفغانستان على مدار عقد الثمانينيات من القرن الماضي، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية لانهيار الاتحاد السوفييتي في أواخر العام 1991.
ربما هذا الهاجس ما زال يطارد إلى الآن الرئيس بوتين، حتى أنه في خطابه يوم 21 أيلول/ سبتمبر الماضي، الذي أعلن فيه التعبئة الجزئية، ولوّح باستخدام أسلحة الدمار الشامل، والحديث عن ضمّ أراض أوكرانية إلى الاتحاد الروسي، كان حذرا، ولم يحاول الربط بين هذه الأمور، وما زال لدي بوتين هواجس أخرى كثيرة، لكنه ربما في محاولة الخروج من أزمة يُمعن أكثر في الدخول إلى مستنقع ستكون أسبابه باهظة وتكاليفه ستكون دامية على الجانب الروسي تحديدا.
على إثر ذلك، كيف تقارن بين حرب روسيا في أوكرانيا وحربها السابقة في أفغانستان؟
هناك فروق كثيرة، لكن كلا الحالتين تشترك في شيء واحد، وهو التبشير بملامح نهاية نظام على الأراضي السوفييتية أو الروسية، بمعنى أن أخطاء الجيش السوفييتي كانت بشعة عندما قام بغزو أفغانستان واعتمد على الاختراق عبر الطرق الرئيسية العميقة، وترك السيطرة لعدم توافر قوات على البلدات والقرى، والنجوع التي كانت تتمركز فيها قوى المقاومة الوليدة لدى أفغانستان، لكنه لم يدرس طبيعة تأثير المناخ والحالة الجوية التي بسببها انتصر هو في الحرب العالمية الثانية على القوات النازية، وهذا ما سبّب له مشاكل كثيرة في الداخل الأفغاني، حيث تجاوزت خسائره 15 ألف جندي، لكن في المقابل هناك الكثير من الجنود أدمنوا المخدرات ولجأوا إلى بيع معداتهم العسكرية للطرف الآخر، في مقابل الحصول على غذاء أو أنواع من المخدرات. هذه المعاناة كان تدميرا لروح العسكرية السوفييتية ولآلتها العسكرية، وربما هذا ما أدى لإنهاء الحقبة السوفييتية لاحقا.
بينما في أوكرانيا هو يقابل شعبا أكثر قدرة تكنولوجية وعسكرية، إذ كانت أوكرانيا زمن الاتحاد السوفييتي جوهرة الصناعات العسكرية والتقنية الحديثة في الدائرة السوفييتية، وهو يقابل اليوم جنودا متحفزين معنويا ومُدربين ومُؤهلين على يد الغرب منذ انضمام شبه جزيرة القرم عنوة للجانب الروسي، وربما سيقابل أعدادا أكثر ضخامة قد تصل إلى أكثر من 100 ضعف -أو أكثر- مقارنة بحجم المجاهدين السابقين في أفغانستان. كما سيواجه الروس خطوط إمدادات مفتوحة ومتماسكة ومباشرة مع حلف الناتو، بل ربما بمعتقداتهم وثأرهم الكامل من الروس؛ نظرا للأحداث الكثيرة التي وقعت في العقدين الماضيين، وسيواجه تصميما وإرادة صلبة، سواء لدى بروكسل أو البيت الأبيض، من أجل إنهاء الحالة الروسية على الأقل كدولة كبرى فاعلة في النظام الدولي.
كذلك سيواجه الروس خطوطا مواصلات مفتوحة، ودعما استخباراتيا على مدار الساعة لصالح الأوكرانيين. ولك أن تتصور أن أنظمة المراقبة والاستطلاع والاستخبارات التي تُجرى بشكل لا يتوقف تنقل حركة كل جندي وكل معدة قتال روسية وكل مركز قيادة. هناك 6 من قادة الجيوش وقادة الفيالق الكبرى الروس تم القضاء عليهم في مراكز قيادتهم نتيجة للاستطلاع الإلكتروني الذي حدّد الإشارات الصادرة من مراكز القيادة، وقامت القوات الأوكرانية بدعم غربي مباشر بقذف هذه القيادات.
وأضيف لك أنه حتى إغراق سفينة القيادة "موسكفا" في أعماق البحر الأسود، وإسقاط أكثر من 14 سفينة حربية وسفينة دورية أيضا من الأسطول الروسي في البحر الأسود، حدث ذلك بدعم استخباراتي كامل من الجانب الغربي، وربما اُستخدمت بعض أنظمة الصواريخ المُضادة للسفن. كل هذه الأمور ربما تضع فروقا جوهرية كبيرة لصالح الطرف الأوكراني مقارنة بالمجاهدين الأفغان الذين واجهوا هذا الغزو الروسي الشائن في الثمانينيات.
ولذلك، فاليوم هناك قوى غربية أكثر توحدا وقربا وصلابة، وهم عازمون على توفير أنظمة التسليح العالية والدقيقة وذات الحركية العالية لصالح أوكرانيا، ولديهم إصرار كبير على أنه مثلما تم إنهاء الاتحاد السوفييتي بعد هزيمته في أفغانستان، ستكون أوكرانيا سببا في محنة كبيرة وعميقة لروسيا على غرار ما حدث للسوفييت في نهاية عقد الثمانينات، خاصة إذا لم تتغير القيادة السياسية العليا في روسيا.
وماذا عن تقييمكم للمواقف الغربية من دعم أوكرانيا؟ وهل كان هناك خذلان لـ"كييف"؟
لقد تعودنا، حتى في تجربتنا المصرية على جبهة قناة السويس، وخلال الحروب العربية الإسرائيلية، وتحديدا في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، على حالة عدم الرضا التي دائما يكون عليها مَن يخوض القتال، ومَن يطالب بقدر من المساعدات العسكرية من الطرف الآخر؛ إذ كنّا نشتكي كثيرا من عدم دعم الروس لنا، خاصة في قاذفات القنابل الحديثة ذات المديات الأكبر، أو في التسليح بأنظمة الدفاع الجوي الأحدث، أو في أنواع من طائرات القتال ذات المدى الأبعد. إذن هناك دائما شكوى من الطرف الذي يتلقى الدعم، والذي في نفس الوقت يقاتل في ميدان المعركة ويُستنزف بشكل أو آخر.
وبالتالي، أنا أتفهم كثيرا طلبات الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في الحصول على مزيد من الأسلحة، خاصة المدرعات وحاملات الجند المدرعة، وأنظمة صاروخية بمديات بعيدة قد تصل ربما إلى عمق الأراضي الروسية، وأيضا أسلحة جو من طائرات قتال تكون أحدث، وبأعداد أكثر مما لدي الطرف الأوكراني الذي يعاني كثيرا في مسائل الحرب الجوية.
لكن أعتقد أن البيت الأبيض وبروكسل كانوا يتمتعون بذكاء كبير؛ فقد وفروا أنظمة فردية ذات دقة عالية، خاصة على سبيل المثال الصواريخ المُضادة للدبابات "جافلن"، وأيضا NLAW البريطانية، ثم فوجئنا بتدفق أعداد كبيرة من أنظمة الصواريخ المُضادة للطائرات الفردية من نوع "ستينغر"، والأهم نوع "ستار ستريك" المُضاد للطائرات، والذي يُطلق لأول مرة ذخائر فرعية على أهداف جوية، ثم كان التوصل بأنظمة مدفعية دقيقة رقمية.
ثم جاء الأمر الأهم، وهو تقديم أنظمة المدفعية الصاروخية "هيمارس" التي أرى أنه بوصولها وبدء استخدامها تحديدا يوم 28 حزيران/ يونيو الماضي بدأت تتشكل المرحلة الثالثة من الحرب. وإذا تصورنا أن المرحلة الأولى كانت معركة الشمال ومحاولة إسقاط كييف، ثم التنازل عن هذا الهدف الكبير، والاقتصار بعد ذلك على معركة الدونباس، أتصور أنه بوصول هذا النوع من المدفعيات الصاروخية ذات الحركية العالية، والتي أُضيف لها أيضا أنظمة M270 المماثلة لها من البريطانيين، وأنظمة مدفعية أخرى من عيار 155 ملليمتر ذاتية الحركة، باتت أرض أوكرانيا مقبرة للدبابات الروسية.
وهذه المعركة أنهت إلى حد كبير عصر الدبابات والآليات المدرعة في الحروب الحديثة. وعندما نشاهد هذا الحضور الضعيف لطائرات القتال الروسية في سماوات ميادين المعركة فوق أوكرانيا، خشية الأنظمة المُضادة للطائرات الحديثة التي توفرت من الجانب الغربي، علينا أن نقول إنه كان لدى واشنطن وبروكسل ذكاء منذ اللحظة الأولى.
لكن كيف تفسر حالة عدم رضا لدى أوكرانيا عن الدعم الغربي حتى الآن؟
هذا أمر علينا اعتباره أنه من الأمور المُعتادة والمُتفهمة بشكل أو آخر لصعوبة الحرب ولضغوط الخسائر، وربما ميوعة مواقف العمليات القتالية التي ترهق كثيرا مَن يديرها ومَن يتولى قيادتها.
لكن على الجانب الآخر، نجح البيت الأبيض وبروكسل في ألا يضعوا في يد الأوكرانيين أسلحة قد تصل بهم إلى قصف عمق روسيا، وإعطاء مبرر للرئيس بوتين للوصول إلى حد استخدام ضربات نووية محدودة أو ما نسميها الأسلحة النووية التكتيكية. هذا كان حصارا نفسيا أكثر منه حصارا عملياتيا؛ فلم يمنح الغرب بوتين الحجة أو المبرر لاستخدام قوة نارية كاسحة تستطيع أن تطيح بدولة في مساحة وقدرات أوكرانيا، وتم الوصول إلى ما نسميه الآن "حرب استنزاف طاحنة" تجعل الخصم الأضعف (أوكرانيا) يتمتع بحركية عالية، وينقل معركته من اتجاه لآخر، ويحقق نسبة خسائر كبيرة في الطرف الأقوى (روسيا) الذي فقد زخم الحرب وإرادة القتال، وهو ما دفع بوتين أخيرا إلى رفع رايات استخدام أسلحة "يوم القيامة" أو أسلحة الدمار الشامل، وعلى رأسها الأسلحة النووية، في محاولة لحل العقدة والورطة الاستراتيجية الكبيرة التي هو عليها الآن.
ما احتمالية تدخل واشنطن والناتو بشكل مباشر في الحرب؟ ومتى يمكن أن يحدث ذلك؟
واشنطن وبروكسل أكدوا منذ اللحظة الأولى أن تدخلهم العسكري لن يكون إلا دفاعا عن أراضي الدول الأعضاء في حلف الناتو، وربما سيقتصر الأمر في أوكرانيا تحديدا على تقديم الدعم العسكري الذي يوفر قدرة صمود ثم قدرة استنزاف، ثم قدرة للهجوم المُضاد الذي شاهدناه في الأيام الأخيرة في الشمال والشمال الشرقي وفي جنوب أوكرانيا.
وحتى الآن، يبدو أن البيت الأبيض محتفظ وحذّر للغاية في إرسال أنظمة تسليح قد تحوّل ميدان المعركة بشكل دراماتيكي، ولكنها إذا وُضعت في يد الأوكران فقد تُستخدم لضرب مناطق في العمق الروسي، وهذا سيخلق ذريعة لبوتين لبدء قصف مناطق داخل الدول الأعضاء لحلف الناتو كبولندا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا، وفي هذه الحالة سيكون التدخل العسكري الغربي واردا للغاية، خاصة إذا قام بوتين بقصف خطوط مواصلات وأهداف عسكرية داعمة للجانب الأوكراني في أراضي دول الناتو الشرقية، وبالتالي سيبدأ البيت الأبيض في تنفيذ ما وعد به، وكرّر الرئيس بايدن، في رده على ضمّ 4 مناطق أوكرانية، قوله: "سندافع عن كل شبر من أراضي حلف الناتو".
الأمر الثاني للتدخل الغربي المباشر يتمثل في حالة قيام الرئيس بوتين باستخدام سلاح نووي تكتيكي لمحاولة الخروج من المأزق الذي يواجهه، أو لإرسال رسالة في إطار نظرية "التصعيد لعدم التصعيد"، أو ربما القيام بتفجير نووي كبير فوق البحر الأسود. وأعتقد أن الرد الأمريكي إذا ما حدث فسيكون ردا محسوبا، حيث سيكون ردا تقليديا، فلن يوفر الرئيس بايدن لبوتين فكرة الرد بأسلحة نووية، ولكن لدى الولايات المتحدة الآن أنماط من الأسلحة التقليدية.
وربما يكون تدمير الأسطول الروسي في البحر الأسود وتحويله إلى كتلة من النيران أمرا واردا، وربما يكون هناك قصف لأهداف عسكرية لحشود روسية في داخل أوكرانيا أو على الحدود الأوكرانية الروسية، لكن دون التورط في قصف أهداف داخل الأراضي الروسية، وبالتالي سيكون الرد الغربي بقدرة تدميرية كبيرة في مناطق محددة.