هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قد يبدو هذا العنوان غريبا.. كيف يمكن، بل هل يعقل ألا يكون الروائيون مثقفين؟! لكن من قال هذا أو بالأحرى أطلق هذا الحكم هو الكاتب الكولومبي الراحل غابرييل غارسيا ماركيز، الذي يعتبر واحداً من أكبر وأشهر الروائيين في العالم.
قال ماركيز هذا الكلام في حوار مع الكاتب الفرنسي الراحل بيار غولدمان لصحيفة "ليبيراسيون" الفرنسية في 1978، والذي قدم ماركيز، حينها، حتى قبل شهرته العالمية الواسعة، بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 1982، بأنه في رأيه "أعظم كاتب على قيد الحياة، وأحد أعظم الكتاب في كل العصور. وهو أيضًا صحافي محترف ومدافع شرس وبدون شروط (ولكن ليس بشكل أعمى) عن الثورة الكوبية".
وأضاف غولدمان "ويُقال أحيانًا، في صالونات أو دوائر معينة، إنه عميل كوبي. ويقال أيضًا إنه غوركي الثورة الكوبية"، ويقصد غولدمان هنا بأن علاقة ماركيز بالثورة الكولومبية تشبه علاقة الكاتب الروسي الماركسي مكسيم غوركي بالثورة البلشفية، وبشكل خاص الديكتاتور السوفياتي جوزيف ستالين.
وفي هذا السياق يضيف غولدمان "غالبًا ما تفسر أعيننا المنغمسة في التاريخ الأوروبي علاقته (يقصد ماركيز) بكاسترو على أنها نوع مختلف، وهو شكل حالي في أمريكا اللاتينية للعلاقة التي يحافظ عليها بعض الكتاب مع الستالينية، كما يقولون: عملاق آخر للكتابة يتحول إلى خادم مفتون بالقوة الستالينية". ويشير الكاتب الفرنسي هنا للعلاقة الملتبسة والتبريرية لكثير من الكتاب والمثقفين الغربيين، الذين صمتوا، بل وتواطؤوا وبرروا بتعامٍ إيديولوجي للديكتاتور جوزيف ستالين، وجرائمه المرعبة والموثقة، التي تعد بالملايين، والتي راح ضحيتها عدد كبير من المثقفين والكتاب، بينهم غوركي نفسه في النهاية!
وهنا يسأل غولدمان ماركيز: “يقال: إن جبن المثقفين الكبار بلا حدود"، فيجيب الكاتب الكولومبي بشكل يبدو مدهشا "أنا لست مثقفًا، أنا روائي والروائيون ليسوا مثقفين.. الروائيون لا علاقة لهم بالعقلانية، بل هم في مجال عاطفي".
تبدو إجابة ماركيز عن "جبن المثقفين" وتفريقه بين الروائي والمثقف، فعلا مذهلة للوهلة الأولى، ولكن بنظرة موضوعية لقطاع كبير من الروائيين، وحتى ذاتية لروائيين بعينهم في العالم العربي خصوصا، نجد أن حكم ماركيز فيه الكثير من الحصافة. فكثير من الروائيين، بـ"غثهم وسمينهم"، لا ينطبق عليهم فعلا مفهوم "المثقف" بالمعنى المتعارف عليه منذ نهاية القرن التاسع عشر، والذي عبَّر عنه وجسده بشكل خاص روائي، هو الفرنسي إيميل زولا، برسالته الشهيرة "إنني أتهم" على صدر صحيفة "لورور" الباريسية 13 يناير 1898.
خاطر زولا بشهرته ومنزلته ومستقبله وحتى حياته برسالته للرئيس الفرنسي آنذاك يتهم فيها قيادات في الجيش الفرنسي بعرقلة سير العدالة ومعاداة السامية بفبركة اتهامات للنقيب اليهودي ألفريد دريفوس" بالخيانة وتحميله كذبا الهزيمة في الحرب ضد ألمانيا، والتجسس لصالحهم، وقد حكم عليه في 1894 بالسجن مدى الحياة.
وقد تحولت "قضية دريفوس" ورسالة زولا الشهيرة إلى قضية رأي عام في فرنسا، وتعرض زولا لكثير من الشتم والتهديدات بسبب موقفه. وتم تقديمه بعد نحو شهر من رسالته للمحاكمة الجنائية بتهمة التشهير، وحكم عليه بالسجن لعام وتم سحب وسام الشرف منه، ليفر إلى إنجلترا، قبل أن يعود بعدها بنحو سنة. وبرغم أنه لم تتم تبرئة الضابط دريفوس إلا بعد سنوات أي في 1906، ظل موقف زولا حدثا تاريخيا، وأرخ ورسخ بعدها لصفة أو مفهوم "المثقف"، بالذي لا يكتفي بالعمل الفكري أو الأدبي أو الفني أو العلمي أو الأكاديمي إنما ينحاز للحق وللحقيقة والدفاع عنها ويرفض الظلم وأوله ظلم السلطة.
كان يمكن لزولا أن يستمر في كتاباته الأدبية التي جعلت منه غنيا، حينها، ولكنه خاطر بكل شيء من أجل الدفاع على دولة العدل والقانون، كما دافع أيضا في أشهر رواياته "جرمينال" عن عمال المناجم المقهورين من قبل البورجوازيين.
زولا لم يختر أن يعيش في "مجاله العاطفي" حسب تعبير ماركيز، الذي يبدو أنه يقصد هنا أن الروائيين يعيشون في عالمهم العاطفي بما فيه من ذاتية، وحتى نرجسية، وأبعاد نفسية مزاجية وحتى مرضية، وأيضا "دونكيشوطية"، كما عبر عنها ميغال دي سارفنتيس، الذي يعتبر أحد رواد الرواية الحديثة.
العديد من الروائيين العرب تطرقوا إلى مواضيع الديكتاتورية في أعمالهم، الجيد منها والرديء، لكن قلة قليلة فقط ترفع أصواتها لتندد في الواقع بالديكتاتوريين في بلدانهم، بل تحول بعضهم إلى أبواق أو مبررين أو مرتزقين عند المستبدين.
قد يبدو موقف ماركيز متناقضا مع مواقفه السياسية الداعمة للثورة الكوبية والثورات الشعبية في أمريكا اللاتينية ورواياته التي تناولت الديكتاتوريين، ولكنه صريح وصادق عندما أكد ردا على سؤاله عن "خيانة المثقفين" بأنه ليس مثقفًا، وأنه روائي والروائيون ليسوا مثقفين..الروائيون لا علاقة لهم بالعقلانية، بل هم في مجال عاطفي".
في مقابل صراحة وشجاعة ماركيز، نجد كثيرا من الروائيين وينسحب هذا على من يكتبون الشعر والأدب عموما في العالم العربي، يقدمون أنفسهم كمثقفين، لكن مواقفهم مما يحدث في بلدانهم أولا والمنطقة عموما، لا علاقة لها بصفة "المثقف" كما جسدها إيميل زولا! بل أن الملاحظ وفي السياق أنه في امتحان الثورات الشعبية العربية سقط كثيرون بشكل مدوٍ، وتحول عدد كبير منهم إلى مدافعين عن الديكتاتورية والديكتاتوريين.
واللافت أن العديد من الروائيين العرب تطرقوا إلى مواضيع الديكتاتورية في أعمالهم، الجيد منها والرديء، لكن قلة قليلة فقط ترفع أصواتها لتندد في الواقع بالديكتاتوريين في بلدانهم، بل تحول بعضهم إلى أبواق أو مبررين أو مرتزقين عند المستبدين. وحتى المترجم الشهير لروايات ماركيز إلى العربية تحول بدوره إلى واحد من أكبر المطبلين والاعتذارين لديكتاتور قاتل مثل بشار الأسد ونظامه وجيشه، الذي وصفه بـ"أرحم الجيوش"!
وفي هذا نجد مثلا مفارقة أن روائيا جزائريا، كتب عن إيميل زولا والحاجة له كمنوذج، وموقفه الشجاع في قضية دريفوس، و"وقوفه ضد ظلم المؤسسة العسكرية"، كما كتب الكاتب حرفيا، لكن خلال الحراك الشعبي الجزائري، الذي جاء بعد انتفاضة شعبية ضد الرئيس الجزائري الراحل المخلوع عبد العزيز بوتفليقة ـ الذي وصفه هذا الروائي الجزائري بالمناسبة يوما بـ"المثقف"ـ سرعان ما كان له موقف متمسح بالمؤسسة العسكرية، وقائدها آنذاك، الذي كان الحاكم الفعلي للبلاد بعد الإطاحة ببوتفليقة، وكان داعمه الأكبر طيلة عشرين سنة من حكمه كرئيس لأركان الجيش، ونائب لوزير الدفاع، الذي ظل بوتفليقة يشغله إلى جانب كونه رئيسا وقائدا أعلى للقوات المسلحة، رغم أنه كان مقعدا، ولا يستطيع حتى الكلام، والذهاب لوحده للحمام!
الروائي الجزائري نفسه وبعد مجموعة من السلفيات الاستعراضية في مظاهرات الحراك، بل والمسارعة في تأليف حتى كتاب عنه اختار له للمفارقة عنوان "الدرجة الصفر للدولة.. من العسكرة للكرنفال "، تحول لمهاجمة الحراك وبنفس تلفيقات السلطة العسكرية، التي أصبح يتمسح بها وبقائدها، آنذاك الذي فرض إبقاء نفس النظام العسكري بواجهة مدنية، وأمر بالاعتقالات التي طالت المئات من ناشطي الحراك وبتهم تلفيقية لا تختلف عما تعرض له "دريفوس"، ولكن الروائي الجزائري لم يرفع صوته مثل إيميل زولا للتنديد بهذه المظالم، المستمرة، حيث يقبع في السجون ظلما، كما يؤكد حقوقيون نحو 300 معتقل رأي، ذنب بعضهم أنهم رفعوا شعار "دولة مدنية وليس عسكرية"، وضمنهم صحافيان، وأساتذة جامعيون، وبينهم 5 نساء.
يسأل غولدمان ماركيز: “يقال: إن جبن المثقفين الكبار بلا حدود"، فيجيب الكاتب الكولومبي بشكل يبدو مدهشا "أنا لست مثقفًا، أنا روائي والروائيون ليسوا مثقفين.. الروائيون لا علاقة لهم بالعقلانية، بل هم في مجال عاطفي".
وإلى جانبه هناك روائيون آخرون يكتبون عن خواطرهم، وهواجسهم العاطفية، وحتى الجنسية، مثله ومثل غريم روائي لدود له يسوق نفسه كذلك كمثقف كبير في الجزائر، يشترك معه في "الفانتزمات" الجنسية الروائية، وتحول مثله للتهجم على الحراك السلمي بتلفيقات النظام عن فزاعة الإسلاميين، الذي كان يأخذ للمفارقة صورة حميمية لواحد منهم كان وزيرا لدى بوتفليقة، ومن أكبر المطبلين له، والذي يوجد في السجن حاليا بتهم فساد.
واللافت أن هذا الروائي أصدر رواية من أجواء الحراك واستعار حتى أحد عناوين رواية ماركيز لها (عن الكولونيل الذي لا أحد يراسله)، وجعل بطلها "باش كاتب رسائل" بوتفليقة وهاجم فيها الأخير وبإشارات مهينة حتى لوالدته وحمامها الشعبي في مدينة مغربية، وأسماه بـ"قزمان بن نسوان".. والمفارقة هنا أن هذا "القزمان"، كما يصفه الروائي ـ والمقصود واضح هنا وصف بوتفليقة بالقزم لقصر قامته ـ عندما كان رئيسا سعى الروائي نفسه (بطرق عشائرية!) لأن يكون وزيرا للثقافة عنده، وبسبب ذلك الطمع أزاحته، وزيرة الثقافة المقربة جدا والمدللة عند بوتفليقة، والتي توسلت للأخير بالترشح للولاية الرابعة، وكان مقعدا، وصرحت حينها بالمناسبة "أنه عظيم مثل ماركيز، الذي يحب بوتفليقة قراءته، كما زعمت!"
والمفارقة كذلك أن "القزمان" بوتفليقة، عندما كان رئيسا أرسل، وبأموال الشعب المبددة، الروائي نفسه، الذي يقدم نفسه حداثيا معاديا للطقوسية الدينية، إلى الحج للبقاع المقدسة ضمن وفد ضم مجموعة من الفنانين، بينهم مغنية راي شهيرة، عادت للحفلات "الزاهية" بعد فترة من أداء الحج! ويقال إن الروائي كان يغضب لما يُدعى بالحاج.. الذي لا يؤمن حقيقة بالحج!
المثير أن الروائي نفسه نشر مقالا لافتا بعنوان "كتابة الرواية تحولت إلى مرض ثقافي عربي ومغاربي"، وأن كل من هب ودب أصبح يكتب الرواية، هو محق فعلا في ذلك.. فما أكثر ما يسمون بـ"الروائيين"، من حكواتيين، ومن كتاب الخواطر، والهلوسات الشخصية وما أقل المثقفين الفعليين منهم!
*كاتب جزائري مقيم في لندن