(1)
عاتبني البعض على استخدام
كلمة "الكفر" في عناوين مقالاتي الأخيرة، ووصلني العتاب في رسائل مهذبة
على البريد الالكتروني، ولما كان واضحا أن الغرض من الرسائل هو الحرص على الكاتب
وعقيدته، من غير أي تجاوز أو انتقاص، فقد رأيت أن أبدأ مقالي اليوم بتقديم الشكر
للأعزاء أصحاب الرسائل على حرصهم وتفاعلهم الطيب، ومن الواجب بعد الشكر أن
أُذَكِّرَهم (وكل ومن ضايقه تعبير "أكفر بكم" وصمت عن العتاب)، بمعنى
الكفر في اللغة. وهو باختصار يعني الإنكار أو التجاهل أو تغطية شيء ما، وبالتالي
فإن "أكفر بكم" تعني "أتجاهلكم" أو "أنكر وجودكم"،
أو "غوروا من ووجهي". وهو تعبير دقيق عما وصفته به حالي تجاه السلطة في
المقال الأول، فأنا لا أريد أن أضعها نصب عيني ومركز تفكيري، ولا أرغب في تتبع
خطاها، حتى بالهجاء، لأن تتبع خطاها يعني هجراني لطريقي والبقاء على طريق السلطة،
وهو خطأ لا يجب أن أقع فيه سواء كنت قادحا أو مادحاً.
(2)
تعبير "غوروا من
وجهي" يبدو في ظاهره مجرد شتيمة عامية، أو تعبير عن الغضب، لكنه تعبير
راديكالي من الناحيتين السياسية والثقافية. فعلى صعيد السياسة يعني التأكيد على
افتراق الطريق، والحرص على القطيعة (حتى المعرفية)، فأنا لا أرغب في تتبع أخبار
السلطة والتعليق عليها والاهتمام بها، لأن التعليق والاهتمام يمنح السلطة حضورا لا
تستحقه في المشهد العام، ويؤكد على أن السلطة هي الفاعل الحتمي وعداها مجرد ردود
على فعلها. ولهذا تأتي أهمية تجاهل السلطة وإنكارها، في مقابل التذكير بحقوق
المواطنة وحياة الناس ومطالبهم العادلة، وهذا يعني أن السلطة ستحضر أيضا في
الحديث، لكن حضورها سيكون تاليا وتابعا للقضية الرئيسة والأهم، وهي قضية الناس
وحياة الناس.
لا أرغب في تتبع أخبار السلطة والتعليق عليها والاهتمام بها، لأن التعليق والاهتمام يمنح السلطة حضورا لا تستحقه في المشهد العام، ويؤكد على أن السلطة هي الفاعل الحتمي وعداها مجرد ردود على فعلها
أما دلالة تعبير
"غوروا" من الناحية الثقافية فترتبط بإسهامات الفيلسوف جاستون باشلار عن
مفهوم "القطيعة"، حيث لا يمكن تأسيس طريق جديد للتقدم عن طريق السير في
الطرق القديمة، بل لا بد من القطع مع القديم من أجل تأسيس الجديد. ويضرب باشلار
مثلا على ذلك بالفرق بين تطوير مصباح الكيروسين، وبين اختراع مصباح التوهج
الكهربائي، فتطوير الكيروسين لن يفضي أبداً إلى تقنية جديدة، لأن فكرته تقوم على
الاشتعال، بينما المصباح الجديد يقوم على عدم الاشتعال.
وهكذا فإن الحديث عن حياة
الناس وحقوق المواطنة ومركزية فكرة الأمة، يقتضي بالضرورة نسف فكرة "مركزية
السلطة" واعتبارها محور الأحداث والأخبار، ولا بد من إنكارها وتجاهلها والفكر
بها، والبدء في تكريس إيمان جديد بقيمة الناس وأخبارهم وحياتهم، وهو ما يمنح
الشعوب قوة جديدة من خلال وسائل الاتصال الحديثة والمنابر
الإعلامية الناشئة في
عصر السماوات المفتوحة.
فالمؤسف أن الميديا
الاجتماعية أخطأت بالسير في طريق وسائل الإعلام الرسمية، وصارت معلقا على
موضوعاتها ومروجا لها، بينما يوجد على الهامش أثر كبير لهذه الوسائل عندما تتبنى
قضاياها وتقدم لها الزخم، وتفرضها على الميديا الرسمية، بل وأحيانا تجبر السلطات
التنفيذية على إصدار قرارات تتماشى مع رغبة الرأي العام الجارف.
وهذا يعني أن حركة الناس
باتجاه قضاياهم تشد السلطة إلى منطقة رد الفعل، وتجعلها في مكان التابع لفعل
الجماهير وحملاتهم (غير المنظمة)، فما بالنا لو اتخذنا من هذا الأسلوب الناجح
منهجا للعمل، يعدل الموازين ويعيد ترتيب "هراركية" العمل الإعلامي
والسياسي؟!
تحوّل السلطات الإقليمية إلى "حلف متواطئ" يقتضي مظلة دولية يعمل هذا الحلف لصالحها، وهو الأمر الذي سعت إليه الإدارة الأمريكية منذ ظهرت فكرة "حلف بغداد"، مرورا بتكوين جبهة تضم "عرب الاعتدال" أو ما سمي في بعض الأبحاث والدراسات السياسية بـ"الإسلام الأمريكي" مقابل "الإسلام الراديكالي"
(وبعد)
عود على فكرة المقالات
الأساسية، وهي الكفر بالسلطة ومساراتها. وكلمة "السلطة" هنا لا تعني
النظام الحاكم الحالي في مصر وفقط، لكنها تعني فكرة السلطة على مدار تاريخها في
مصر، حيث تسيطر نخبة على مقدرات الأرض وناسها، وتتحكم في كل مجالات الحياة، بما
فيها مصائر وتطلعات وأحلام الناس. كما تعني الامتداد الجغرافي لمفهوم السلطات
الحاكمة خارج مصر، لأن تشابك المصالح بين السلطات الإقليمية يجعل منها
"كيانا" يسعى لتدعم وجوده وتقوية نفسه في مواجهة الجماهير، وهو ما كشفت
عنه ممارسات السلطات الإقليمية العربية بعد ثورات الربيع العربي، في دعم بعضها
البعض في مواجهة الجماهير، في حين كانت نفس السلطات تلعب على الضد مع السلطات غير
المتوافقة معها، وتدعم تهييج الجماهير ضدها، كما حدث في ليبيا وسوريا واليمن، وهو
عكس ما حدث في البحرين الذي تم تدعيمها، حتى لا يصل إليها المد الشعبي للربيع
العربي.
ومن المفهوم أن تحوّل السلطات
الإقليمية إلى "حلف متواطئ" يقتضي مظلة دولية يعمل هذا الحلف لصالحها،
وهو الأمر الذي سعت إليه الإدارة الأمريكية منذ ظهرت فكرة "حلف بغداد"،
مرورا بتكوين جبهة تضم "عرب الاعتدال" أو ما سمي في بعض الأبحاث
والدراسات السياسية بـ"الإسلام الأمريكي" مقابل "الإسلام
الراديكالي"، الذي يجاهر بالعداء للمشروع الغربي وللمشروع الصهيوني التابع له.
لكن المؤسف أن مشروع الإسلام الراديكالي نفسه تم الإيقاع به في فخ أجهزة
الاستخبارات الغربية عن طريق اختراق بعض تنظيماته، وكذلك عن طريق تأسيس أفرع
مشبوهة تعمل تحت العناوين الإسلامية بأجندة استخباراتية ملوثة..
هذا هو الهدف الذي تنطلق منه فكرة الكفر بالسلطة في تاريخنا، لأن امتدادها لن يغير الطريق من "قدسية الحكام" إلى "احترام حقوق الجماهير"، فالطريقان نقيضان: إما السلطة كما عرفتها الجموع في منطقتنا على مدى التاريخ، وإما عصر جديد ننتزع فيه القداسة من الحكام المهيمنين ونجعل منهم مجرد موظفين عموم تسهل محاسبتهم وطردهم من الوظيفة
(الهدف)
الهدف من فكرة القطيعة المعرفية
والسياسية والإخبارية مع السلطة، ليس تجاهلها وفقط، لكن تجاهل أجندتها ومفاهيمها
وتعريفاتها وتاريخها أيضا، والعمل على تأسيس أجندة جديدة بمفاهيم وتعريفات ترتبط
بفكرة الأمة واحتياجات الجماهير، وهذا يقتضي أن نتساءل من جديد وبمنتهى الانفتاح
النفسي والذهني عن مفهومنا للهوية، وتأطيرنا للحرية، وتحديدنا لفكرة الوطنية،
وموضع ذلك كله من أفكار أعم مثل الإنسانية، والأديان، والعلاقات مع الآخرين
المختلفين في الداخل وفي العالم بأسره..
هذا هو الهدف الذي تنطلق منه
فكرة الكفر بالسلطة في تاريخنا، لأن امتدادها لن يغير الطريق من "قدسية
الحكام" إلى "احترام
حقوق الجماهير"، فالطريقان نقيضان: إما السلطة
كما عرفتها الجموع في منطقتنا على مدى التاريخ، وإما عصر جديد ننتزع فيه القداسة
من الحكام المهيمنين ونجعل منهم مجرد موظفين عموم تسهل محاسبتهم وطردهم من الوظيفة
بالوسائل التي تسجلها الدساتير، بعد أن تتحول من مجرد "ورق" إلى
"قاعدة اتفاق" لا يمكن للحاكم تجاهلها أو "الكفر بها"، أو
تعديلها حسب مزاجه..
(عودة)
أرجو أن أكون قد أوضحت معنى
الكفر في هذه المقالات، وفي المقال المقبل نواصل الحكايات.
[email protected]