قضايا وآراء

إلى أين تتجه تونس بعد الاستفتاء؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
تصدير: "المرء لكي يكون مسيطرا، لا يحتاج لتأمين الدعم النشط طالما هو قادر على "منع" تنظيم المعارضة في أي شكل متماسك" (بوبي. س: سيد، الخوف الأصولي: المركزية الأوروبية وبروز الإسلام).

بعد نجاحه في إجراء الاستفتاء على الدستور الجديد، يبدو أن خارطة الطريق التي وضعها الرئيس التونسي قيس سعيد للخروج من حالة الاستثناء أو "الخطر الداهم" ستمضي إلى لحظتها الثالثة والأخيرة، أي إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة تحت سقف الدستور الجديد وبنظام انتخابي جديد. فرغم كل أشكال المعارضة الداخلية وجميع بيانات القلق الشديد و"التحذير" والدعوات إلى الحوار الشامل التي صدرت عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، استطاع الرئيس التونسي إلى حد هذه اللحظة أن يفرض الأمر الواقع على جميع خصومه بصورةٍ جذرية، أي بصورة تكاد تجعل من الديمقراطية التمثيلية ومؤسساتها وأجسامها الوسيطة أثرا بعد عَين، أو درسا من دروس تاريخ الأفكار السياسية.

منذ الأيام الأولى التي أعقبت إعلان الرئيس سعيد عن إجراءاته "الاستثنائية" في 25 تموز/ يوليو من السنة الماضية، كان واضحا أن سيد قرطاج لم يكن ينوي التعامل مع حالة الاستثناء بالصورة التي تضبطها فصول الدستور، وكان واضحا أيضا أنه لم يكن يعتزم إجراء "إصلاحات" من داخل المنظومة السياسية ودستورها. فالدستور التونسي لا يسمح بتجميد البرلمان ولا بحل الحكومة، ولا يعطي للرئيس خلال فترة "الخطر الداهم" الحق في الجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. ولكنّ قراءة الرئيس قيس سعيد للفصل 80 من الدستور ذهبت ضد هذا الاتجاه، إلى حد المطالبة بالإشراف على النيابة العمومية (السلطة القضائية)، ثم التراجع مؤقتا عن ذلك تحت ضغط القضاة. لقد كانت قراءة الرئيس للفصل 80 قراءة انقلابية عند الخصوم، وقراءة "ما فوق دستورية" عند الأنصار، ولكنها في الأحوال جميعا، كانت قراءة تمنع أي عودة لما قبل 25 تموز/ يوليو وتؤسس لواقع سياسي جديد.
استطاع الرئيس التونسي إلى حد هذه اللحظة أن يفرض الأمر الواقع على جميع خصومه بصورةٍ جذرية، أي بصورةٍ تكاد تجعل من الديمقراطية التمثيلية ومؤسساتها وأجسامها الوسيطة أثرا بعد عَين، أو درسا من دروس تاريخ الأفكار السياسية

قد يكون من المبالغة أن نقول إن خارطة الطريق الرئاسية للخروج من حالة الاستثناء كانت موجودة في إجراءات 25 تموز/ يوليو، ولكننا لن نجانب الصواب إذا قلنا إنها كانت كامنة فيها. فكل من يعرف مشروع "التأسيس الجديد" للرئيس، لن يستغرب ما أعقب 25 تموز/ يوليو من إدارة حالة الاستثناء بمنطق المرحلة الانتقالية أو التأسيسية.

فمنذ طرح مشروع "التأسيس الثوري الجديد"، لم يعتبر الرئيس نفسه شريكا للنخبة السياسية، ولم يُخف انتقاده لمسار الانتقال الديمقراطي ومنطق مأسسة مطالب "الثوار". وكان يحرص في خطاباته على تأكيد تمايزه عن الجميع، رغم قبوله بشروط اللعبة داخل الديمقراطية التمثيلية. لقد كان الرئيس يعتبر نفسه بديلا اضطرته السياقات إلى أن يقبل مؤقتا بدور الشريك، وقد جاء 25 تموز/ يوليو ليحرره من ثقل تلك السياقات ويعطيه الشرعية والقدرة على خلق سياق "تأسيسي" جديد، يجُبّ "المرحلة التأسيسية" التي أعقبت الثورة وينهي دستورها ومؤسساتها، ويلغي الحاجة إلى أجسامها الوسيطة التي زيفت -حسب رأيه- إرادة الشعب وانقلبت على استحقاقات الثورة.

سواء أكان "التأسيس الجديد" مشروعا سياسيا مستقلا تقاطع مع استراتيجيات الدولة العميقة وحلفائها في الخارج، أم كان ذلك التأسيس مشروعا خلقته الدولة العميقة وتربى على أعينها وأعين حلفائها الإقليميين والدوليين، من المؤكد أن المشروع الرئاسي يظل هو الفاعل الأهم في تشكيل المشهد التونسي وإعادة هندسته بصورة جذرية.

وإذا ما عدنا إلى المقولة التي صدّرنا بها هذا المقال، فإن الرئيس لا يحتاج أصلا إلى "منع تنظيم المعارضة في أي شكل متماسك"، بحكم وجود عوامل أيديولوجية تمنع تنظم تلك المعارضة دون الحاجة إلى تدخل السلطة الحاكمة. وبالإضافة إلى هذا المعطى الذي يعطي للرئيس مجالا لإظهار "ديمقراطيته" بالسماح للأحزاب بالتعبير والتظاهر -بحكم علمه بمحدودية تحركات المعارضة وعدم قدرتها على تهديد سلطته بصورة جدية-، فإنّ ما يعيق المعارضة هو عجزها عن تقديم بديل ذي مصداقية عند عامة الشعب، أي تقديم بديل يكون تجاوزا جدليا لفساد ما قبل 25 تموز/ يوليو ومخاطر الاستبداد والحكم الفردي بعده، بديل لا يكون كإعادة تدوير لرموز الفشل ولخطابات التوافق سيئ السمعة.
ما يعيق المعارضة، هو عجزها عن تقديم بديل ذي مصداقية عند عامة الشعب، أي تقديم بديل يكون تجاوزا جدليا لفساد ما قبل 25 تموز/ يوليو ومخاطر الاستبداد والحكم الفردي بعده، بديل لا يكون كإعادة تدوير لرموز الفشل ولخطابات التوافق سيئ السمعة

وإذا ما كانت توازنات القوة داخليا تخدم الرئيس (تشتت المعارضة وصراعاتها البينية، غياب أي بديل جدي، هيمنة رموز سياسية لا تتمتع بمصداقية شعبية تتجاوز قواعدها التقليدية، وجود طوابير خامسة للرئيس داخل أغلب منظمات المجتمع المدني والمركزية النقابية.. إلخ)، فإن المواقف الدولية الحقيقية تزيد من قوة الرئيس وتجعله المحاور/ الشريك الأفضل لها، بصرف النظر عن بيانات "القلق الشديد" الموجهة للاستهلاك الإعلامي، بتأكيد حرص القوى/المنظمات الدولية على حماية الديمقراطية ومؤسساتها في تونس.

ونحن نعلم جميعا أن البيانات الرسمية لا تعكس السياسات القائمة أساسا على المصالح لا على المبادئ والقيم. فالغرب كله لا يعنيه من الدول التابعة إلا ضمان مصالحه وتأبيد منطق التبعية الاقتصادية (بالنسبة للعقل الأنجلوساكسوني)، والثقافية أيضا (بالنسبة للعقل الفرنكفوني)، وهو لن يتردد في مساندة أي نظام يضمن تلك المصالح مهما كان ترتيبه في سلم الديمقراطية، ومهما كان وضع مؤشرات الحريات الفردية والجماعية فيه.

بعد صدور نتائج الاستفتاء، أشارت الولايات المتحدة إلى "الإقبال الضعيف" على الاستفتاء، وحذّرت من "تقويض" الدستور الجديد لحقوق الإنسان. أما الاتحاد الأوروبي، فقد أشار هو الآخر إلى نسبة الإقبال الضعيفة على الاستفتاء واعتبر أن الحل في الحوار. كما أعربت الأمم المتحدة عن "استعدادها لدعم الشعب التونسي في مواجهة أي تحديات قائمة"، وقالت: "سنقوم بمراجعة هذا التشريع.. هذا الاستفتاء.. هذه اللغة في الاستفتاء الذي تم التصديق عليه".
لا يبدو أن المعارضة في وضعها الحالي قادرة على تغيير هذا الواقع أو تعديله، كما لا يبدو أن القوى الدولية المؤثرة في الشأن التونسي مستاءة من المشهد الجديد. إن المطلب الحقيقي للقوى الدولية ليس هو الديمقراطية أو الحفاظ على "الاستثناء التونسي"، بل هو وجود نظام قوي ومستقر يضمن فرض إملاءات الجهات المانحة/ الناهبة

إننا واقعيا أمام مواقف تقبل خارطة الطريق الرئاسية ومخرجاتها، ولكنها تريد الإبقاء على مسافة نقدية منه؛ لسببين: الانحياز الخطابي لا الواقعي للديمقراطية، وإبقاء الضغط على الرئيس التونسي ليسرّع في "خارطة الطريق" الحقيقية لتصحيح المسار: فرض إملاءات صندوق النقد، والالتحاق بمحور التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، بعد مركزة السلطة في قرطاج وخلق "تعددية محدودة" وديمقراطية صورية، لا تأثير لها على مواقع اتخاذ القرار داخل الدولة.

بحكم غياب "طريق ثالث" يتجاوز السلطة القائمة ومعارضتها، يبدو أن تونس تتجه نحو تكريس سلطة الرئيس قيس سعيد، لا باعتباره صاحب مشروع سياسي للتحرر من التبعية والتخلف ولإعادة توزيع جذري للسلطة والثروة، بل باعتباره لحظة توافقية ثانية انتفت فيها حاجة الدولة العميقة للديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، كما انتفت فيها حاجة "الزعيم- المؤسس" (على الأقل مؤقتا) لأي حزب حاكم.

ولا يبدو أن المعارضة في وضعها الحالي قادرة على تغيير هذا الواقع أو تعديله، كما لا يبدو أن القوى الدولية المؤثرة في الشأن التونسي مستاءة من المشهد الجديد. إن المطلب الحقيقي للقوى الدولية ليس هو الديمقراطية أو الحفاظ على "الاستثناء التونسي"، بل هو وجود نظام قوي ومستقر يضمن فرض إملاءات الجهات المانحة/ الناهبة، ويمنع التغلغل الروسي والصيني في المنطقة، ولا يعارض مشروع التطبيع وصفقة القرن. وهي حزمة مطالب سيكون نجاح الرئيس التونسي في تحقيقها هو المحدد الأساسي لبقائه في السلطة خلال الدورة الرئاسية الحالية والدورة التي تليها، بصرف النظر عن موقف المعارضة أو وضعها خلال المرحلة القادمة من "خارطة الطريق" الرئاسية.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)