هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
صدر في شباط/ فبراير الماضي، عن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت "IFPO" كتابين عن تمثيل الجسد السوري، الأول معنون بـ"كلمات من لحم ودم"، والثاني "صور من لحم ودم" وكلاهُما عُنونا فوق اسم "الجسد في الواقع السوري".
الكتابان مُترجمان من الفرنسية إلى العربية بإشراف نبراس شحيّد. وهو كاتب وباحث سوري، مختص في الفلسفة الأوروبية المعاصرة.
والكتابان عبارة عن مجموعة من المقالات لمجموعة من الكتّاب، يتناول كل نصَّ داخل الكتابين رمزية الجسد السوري في الكلمة والصورة والسينما والمسرح والرواية والسجن والتعذيب والإبادة إلى آخره.
كذلك، إبراز مدى حضوره الهامّ، أي الجسد بعد الثورة السورية، منذ ما يقرب من إحدى عشر عاما. نتناول أبرز ما جاء في الكتاب الثاني "صور من لحم ودم: الجسد في الواقع السوري".
قُسّم الكتاب إلى سبعة نصوص، كل نص يُفكك إشكالية ما، خاصة بالعمل الفنّي المَرسوم والمُصوّر والمَنحوت والمُتشكّل..
يبدأ النص الأول بقلّم الباحث السوري نبراس شحيّد، يحاول نبراس التعمّق في صورة الجسد السوري أمام المرايا المُتعددة، ويُعيد التفكير إذا ما كان هذا الجسد هو ذات الجسد قبل وبعد ما حدث له أو لغيره، أي ليس شرطا أن الجسد التي اخترقته السُلطة بأدواتها العقابية والتَعذيبية والإبادية، هو فقط مَن يتغيّر، بل حتى الأجساد التي شهدت ما حدث لأُخواتها، هي أيضا تُعيد سردية النظر إلى ولحمها ودمها، ذاتيا واجتماعيا وسُلطويا
أما الباحثة سيسيل بويكس، تبحث في نصّها الثاني، عن علاقة الصورة والصورة المُتحركة (الفيديو) بـ الشهادة. حيث تتبع بويكس، الصور والفيديوهات التي كانت تُصوّر بداية الانتفاضة السورية، إلى أن وصلت إلى الاقتتال الدامي بين الفصائل المُعارضة والنظام، وأطراف مُتصارعة أُخرى. تنظُر سيسيل إلى الجسد هنا، بما أنّه الشاهد والمُستشَهَد عليه. بما أنّ جسد حي يُصور جسد ميت، ومن ثم يموت وآخر يُصور، إلى آخره.
النص الثالث للكاتب السوري علاء رشيدين معنّون بـ الجسد الفنّي السوري، يتعرّض النص إلى تحليل الجسد في الفن التشكيلي بأنواعه المُتعددة، من النحت، الحفر، التصوير الفوتوغرافي، الرسم، كذلك فنون الأداء، والفنون الرقمية المرئية، وهذا منذ عام 2011. يتناول رشيدي الجسد، وعلاقاتيّته المُتعددة بالثورة والحرب. وبهذا يمرّ الجسد بتنوعاتٍ عدّة، متداخلة ومُنفصلة، من الجسد المُنتفض إلى الجسد السلاح، إلى الضحية والمُعتقل والمَيت، المُتألم والنازح. إضافة إلى الجسد السُلطة. يُفكك رشيدي التقاطعات المرئية لكُل هذه الأجساد، في فنونٍ أدائية ومرئية عدّة، كيف تمظهرت وما تمثيلها بالنسبة للفن والذات، إلى آخره.
في النص الرابع، تحاول الكاتبة السورية نور عسليّة المزج بين تجربتها الذاتية في الكتابة وممارستها للفن. تُركز عسليّة على جسد المرأة ومرئيّاته المُختلفة، عبر تطور الأفكار واختلاف الثقافات والفلسفات والأجيال أيضا. تحاول نور التدقيق في الجسد الأنثوي، الجسد الأمومي، الإيروتيكي/الجنساني، المُضطهد والمَنسوج من السُلطويات والأعراف الاجتماعية، مُجاوبةً عن دور الفن التشكيلي المرئي في إظهار تقاطعات وتباينات الجسد الأنثوي، مِن مَنظوراتٍ مُتعددة.
"نعم، نحن هذا الشرير وأنتم هذا الطائر وسنبقى كذلك، أعيدوها إلى الزنزانة". تذكر هذه العبارة الفنانة السورية عزة أبو ربعيّة، والتي قالها لها المُحقق وهي في أقبية السجون الأسدية. حيث طلب منها أن ترسم صورة تعبّر فيها عن الحقد، فرسمتْ صورة شريرا غاضبا يعصُر بين يديه عصفورة، في دليل على ما تفعله سُلطة الاستبداد الأسدية في شعبها.. تسرد عزة أبو ربعيّة في النص الخامس، تجربتها الفنّية وتحولاتها، مرتكزةً مثل عسليّة (النص السابق) على جسد المرأة السورية. تحاول تقديم مرآة فنية تُحاكي وترى ما وراء التجربة السجنّية لها ولغيرها من النساء السوريات.
النص السادس، وهو للكاتب السوري الراحل حسّان عبّاس، حيث ينظر عبّاس إلى الأجساد السورية المَلحمية، التي دخلت الثورة، واشتبكت مع السُلطة والثورة والحرب، ما جعل الجسد الواحد منها يذوب في جسد جماعي، مُتخلّيًا عن ذاته الجسدية. لكن وبالرغم من هذا التخلي، تتضح قيمة هذا الجسد، بوصفه ذاتا مُستقلة، من خلال الأعمال الفنّية، ومن خلال التأمّل فيما حدث لهذا الجسد. يفكك حسّان أربعة أجساد، جسد مُتعَّب، مُتشظَّى، مَقتول وميت. يتابع عبّاس تحول هذا الجسد، منذ أن كان جسد مَلحمي إلى أن بات جسد تراجيديّ.
وفي النص الأخير من الكتاب، يختتم شحيّد هذه الجسديّة السورية المُعمّقة، من خلال تقديمه قراءة لحالتين. الجسد المُطلق والجسد العدمي، وهذا من خلال قراءته ل أعمال الفنان خالد ضوا. حيث الجسد العدمي، الذي يتسم بالمَوات، بعد تحطيم سمته السياسية، وتحطيم أجزائه الجسدية، الأطراف المَقطوعة والثقوب المَحفورة وغير ذلك. القراءة الثانية هي ل أعمال الفنان محمد عُمران، حيث الجسد المُطلق في مُخيلاته وتصوراته، تناول شحيّد، لا مَحصورية الجسد عند عُمران والتي تجلّت فيما سمّاه، علاقات الجسد العضوية وتَمظهراته الخارجية، إذ ركّز عُمران على أعضاء الجسد، وأعطاها أحجام غير طبيعية، كي يوحي بها عن فلسفة ما، فلسفة سُلطوي، استبدادية، تدميرية وإبَادية.
نصوص الكتاب داخل الكتابين، سواء صور أو كلمات من لحم ودم، هي بالفعل إطلاق عنان تأملي لأقصى عُمق، حول الجسد السوري، في مَاضية ووَاقعه ومُستقبله.