كتاب عربي 21

المشهد التونسي إعادة قراءة

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
حال الحول على الانقلاب في تونس.. انقلاب تافه وفاشل ويستمر في العمل. معارضة على حق كامل ومطلق بسند شرع وقانوني، ولا تفلح في دحر الانقلاب.. هناك خلل ما في الرؤية، نحتاج إلى إعادة تقدير الموقف والبحث عن سبب الخلل المنهجي، دون تبكيت أو حط من قمة الجهد المعارض وصدق نواياه، هذا ليس موضعا ليأكل المرء ذراعه على طريقة بطل رواية اللجنة لصنع الله إبراهيم. لقد خرج الشارع ضد المنقلب الشخص وغفل عمن خلفه أو عمن يستعمله، ويبدو أن الكامن خلف الانقلاب غير معني بالمنقلب نفسه ولكن بما ينويه من استعمال المنقلب الإمعة.

إجماع على تفاهة المنقلب ومشروعه

باستثناء الغوغاء مجهولي الوجوه الذين تجرأوا على كل صاحب صوت وصاحب موقف في السوشيال ميديا، فإننا لمسنا في مواقع كثيرة معارضة مطلقة للمنقلب يبدأ حديثها غالبا "وين ماشية تونس؟ والسيد وين هازنا؟"، وتنتهي بتحويل دستوره إلى نكتة وتحويل مشرعيه إلى مهرجين. والطريف أن كوادر الدولة وهي خريجة حقوق في الأعم الأغلب مرت من درس الصادق بالعيد، وهو عندها منذ تخرجها المدرس الذي لا يُذكر بعد الخروج من درسه.

(يجب أن نلفت الانتباه إلى أن المشرع الحقيقي وراء الصادق بالعيد هو الصادق شعبان، ترزي قانون ابن علي وابن المنظومة الجهوية).

لم تتوحد معارضات كثيرة في صف واحد وحاسم يستعيد الدولة والإدارة من المنقلب، ولكن لدينا يقين بأن كل ذي عقل يخجل الآن من الدفاع عما يفعله المنقلب، وإن غلب على كثيرين تجنب السحل الإعلامي، وهو أداة الغوغاء غير ذوي الوجوه.
ما هو السر في عدم توحد الأصوات المعارضة؟ يجب أن يسبق هذا سؤال آخر: لماذا وجدت خلافات سياسية بين النخب دمرت للديمقراطية حتى وصل الانقلاب؟ من هنا نطل على الجهة الكامنة خلف الانقلاب والتي نرى المنقلب يحسبها في صفه، وإنما هي تستعمله كما استعملت أسافين الفتنة السياسية قبله

لكن ما هو السر في عدم توحد الأصوات المعارضة؟ يجب أن يسبق هذا سؤال آخر: لماذا وجدت خلافات سياسية بين النخب دمرت للديمقراطية حتى وصل الانقلاب؟ من هنا نطل على الجهة الكامنة خلف الانقلاب والتي نرى المنقلب يحسبها في صفه، وإنما هي تستعمله كما استعملت أسافين الفتنة السياسية قبله حتى فتحت له ثغرة، وهو باق برغبتها وبقدراتها لتنفذ مشروعها. فمن هي وما مشروعها؟ إنها المنظومة.

المنظومة من تكون؟

اختصرنا التسمية وسهل الحديث عن مجهول، وكان من اختصارات الحديث أن رأينا الواجهة الانقلابية فتسرب إلى التحليل خطأ قاتل وتسربت إلى النضال حركات غير منتجة، وربما ذات مفعول عكسي منحت المنقلب شهادة في سعة الصدر على معارضيه. في تلك الاستهانة كثير من الجهل، لنقل من الطيبة والتعجل على قطف نتيجة.

المنظومة ليست حزب الفاشية، بل هو صوت منها أو وسيلة تعمية أخرى على وجودها، اصطنعت لتشاغل الشارع الديمقراطي وتصرفه عن سبيله القويم، وهذا حدود دور الحزب الفاشي. المنظومة صانعة اليسار الوظيفي، المساند الأبدي للانقلابات أو المدمر الأزلي للديمقراطية (المقارنات مع الأوضاع في الدول العربية تسهل فهم هذه المهمة).

المنظومة هي ما سماه الصديق عادل بن عبد الله "المركب المالي الجهوي المهيمن" منذ السبعينات، والذي استولى على انقلاب ابن علي سنة 1987 بعد أن عجز بورقيبة على ضمان مصالحه، ثم خرب الثورة منذ حدوثها وهو الذي يستعد الآن لاستلام البلد بعد أن يجهز المنقلب إجهازا تاما على كل المؤسسات الديمقراطية، وفي عنوانها أو أساسها دستور 2014.
فرص تصويب الرمي ضد المنظومة ترادفت منذ الثورة، وكانت المؤشرات على وجود عقل يدبر التخريب ظاهرة، وكنا كثيرا ما نقترب لنسميها ثم تصرفنا عنها وقائع جانبية يتبين بعد فوات الأوان أنها من صنعها. كان الوقوع في هذه الفخاخ سهلا، وقد لدغت الثورة من جحر المنظومة مئات المرات

فرص تصويب الرمي ضد المنظومة ترادفت منذ الثورة، وكانت المؤشرات على وجود عقل يدبر التخريب ظاهرة، وكنا كثيرا ما نقترب لنسميها ثم تصرفنا عنها وقائع جانبية يتبين بعد فوات الأوان أنها من صنعها. كان الوقوع في هذه الفخاخ سهلا، وقد لدغت الثورة من جحر المنظومة مئات المرات ولكن لا عبرة.

طبقة سماسرة المال العام والمناولين مع رأس المال الأجنبي ومسدي الخدمات السياحية الرخيصة وبعضها سياحة جنسية للعمر الثالث.. هذه الطبقة صنعتها الدولة بنفسها وأغدقت عليها تحت ذريعة التشغيل والتنمية، فملكت وحكمت وبقيت دوما خفية الاسم ظاهرة الفعل. وكان لها منذ البداية ثقل جهوي في الساحل، صنعه بورقيبة سياسيا ومكّنه الهادي نويرة من المال العام ورشاها ابن علي بالمزيد من المنافع مقابل تمتعه بالسلطة.

جاءت الثورة على خلاف رغبتها وأفلحت الثورة في سن دستور يمهد لإخضاعها للديمقراطية، لذلك فهدم الدستور صار هدفها الأسمى وهي تجتهد في محوه وإحلال شيء سخيف مكانه، وليس أفضل لديها من منقلب يظن بنفسه الكمال.

هل يمكن إعادة توجيه المعركة

انطلقنا من حاجة إلى إعادة تعريف الخصم السياسي للثورة، وفي بعض ما كتبنا أعلاه لسنا سباقين، ولكن ما زلنا نرى المعركة موجهة ضد شخص وليست ضد منظومة معادية للديمقراطية وتحمي فسادها بقوة الدولة (فهي مؤمنة بتملكها الحصري للدولة)، وهذا خطأ عميق الأثر يكبر مع الوقت.

توجيه المعركة ضد خصوم الثورة ودستورها لا يقتضي بالضرورة الصمت على المنقلب، بل صرف الجهد الأكبر إلى من يكمن خلفه. لكنه يقتضي أولا تنظيف الصفوف، فلا يمكن محاربة المنظومة ببعض مكوناتها ووسائلها، وأهم مكون أو أداة خدمت المنظومة هي النقابة، ولا يمكن الحديث ضد المنظومة في وسائل إعلامها.
دلائل كثيرة تتوفر الآن أن بقاء الانقلاب مرهون بتمرير دستوره يوم 25 تموز/ يوليو، أي إنهاء دستور 2014 المزعج، بعدها ستقول المنظومة نفسها إنه يجب وضع حد لحالة الانسداد الاقتصادي والاجتماعي. على أنه يظل بيدها دوما، ومتى رغبت ترشح ضد المنقلب بقانونه الانتخابي الجديد وتخرجه من المشهد بغلاف سياسي غير دموي

يقتضي أن يرفع الصوت عاليا ضد هذه الأدوات التي صنعت الانقلاب وأعادت المنظومة (التي بلا وجه نراه) إلى سدة الحكم، متخفية خلف انقلاب تافه وغبي.

المنظومة تملك وسائل إزاحة المنقلب

دلائل كثيرة تتوفر الآن أن بقاء الانقلاب مرهون بتمرير دستوره يوم 25 تموز/ يوليو، أي إنهاء دستور 2014 المزعج، بعدها ستقول المنظومة نفسها إنه يجب وضع حد لحالة الانسداد الاقتصادي والاجتماعي. على أنه يظل بيدها دوما، ومتى رغبت ترشح ضد المنقلب بقانونه الانتخابي الجديد وتخرجه من المشهد بغلاف سياسي غير دموي، وتستلم بلدا بلا خطة سياسية للمستقبل، دون أن ننسى أنها قادرة بالمال والإعلام والنقابة على الاستيلاء على برلمانه بالانتخاب على الأشخاص.

فالمنظومة تملك المال الكافي للاستيلاء على قاعدة الانقلاب نفسها. وحتى اللحظة لا نرى أن وجوده يضر بمصالح المنظومة، فقد لحس كل حديثه عن الفساد ومقاومته، وهو الحديث الذي أخاف المنظومة منذ بداية الثورة، رغم أنه ظل حديثا لكنه لم يختف من المشهد. يمكنها أن تمنحه خمس سنوات أخرى وتسعى تحته كالعشب الطفيلي، ماذا يتبقى لمعارضي الانقلاب الصادقين إذن؟

المعارضة التي أخطأت عنوان المعركة بعد أن فشلت في حماية الثورة والدستور ستجد نفسها في نفس موقع معارضة ابن علي، مع هامش حرية أفضل قليلا ودون وسيلة إعلامية طبعا، لكنه لا يؤدي إلى أي مكان؛ معارضة تتحول إلى طائفة تقدس دستورا لم يعد موجودا على الأرض.
المعارضة التي أخطأت عنوان المعركة بعد أن فشلت في حماية الثورة والدستور ستجد نفسها في نفس موقع معارضة ابن علي، مع هامش حرية أفضل قليلا ودون وسيلة إعلامية طبعا، لكنه لا يؤدي إلى أي مكان

أليس من المناسب أن تعترف المعارضة بأنها تجري خلف المنظومة ولا تلحق بها، وأن تحركاتها تحولت إلى نوع من رفع العتب الذي ينتج اليأس ولا ينتج الأمل؟

تقديرنا أن هذه اللحظة تطابق الأيام الأخيرة لابن علي، وإذا كانت المعارضة القديمة قد ركبت اللحظة الثورية (التي لم تصنعها) بلا خطة ولا كفاءة للحكم، فإن المطلوب الآن الاستفادة من ذلك الخطأ وإعادة البناء على أسس مختلفة.

الاستئناف من بعيد، وهناك ورقة رابحة لدى من يعارض منظومات الفساد. هذه المنظومة خبيثة ولكنها لا تواجه في الشارع. جبنها ورقة بيد من يعارضها، فهي حريصة على "كدس الفلوس" الذي بين يديها وهو همها الوحيد، وهناك يكون الضغط. سيقول البعض نضغط بالنقابات وهذا عودة إلى الخطأ، فالنقابات أداة بيد المنظومة. ماذا لو يستمع المعارضون الآن للفقراء من حولهم والذين يدمر الانقلاب (والمنظومة الجشعة من خلفه) قدرتهم على البقاء؟

مثاليات من وراء الحاسوب؟ نعم في ظاهر اللفظ لكن يفترض أن تكون أخطاء البدايات دروسا مفيدة. ليتجه التفكير والعمل إلى استئناف ثوري.. سيمهد له جشع المنظومة كما مهد للثورة.
التعليقات (0)