يتوقف المتابعون، وسيتوقف المؤرخون طويلاً على إصرار العالم كله وتحديداً الغرب على عدم إسقاط رئيس النظام السوري بشار
الأسد، على الرغم من الكُلف الباهظة التي تكبّدها الشعب السوري على مدى 12 عاماً، وتكبّدها معه المحيط الإقليمي وحتى العالمي، إن كان بسبب تفشي تجارة الكبتاغون والحشيش، المنتج الوحيد لدى العصابة
الطائفية، ووصوله إلى أسواق آسيا وأفريقيا وحتى أوروبا، أو بسبب استخدام روسيا، الخصم الأساسي للغرب ومنافسه الرئيسي،
سوريا كمنصة ورافعة حقيقية للعودة إلى الشرق الأوسط بل وإلى العالم كله، كما رأينا في حربها في أوكرانيا، وكما تتحدث اليوم الصحف الغربية كلها، وهي التي كانت صامتة وصائمة عن الكلام تماماً طوال 12 عاماً من التغريبة السورية.
لكن هل يمكن للغرب الذي يُعرف عنه وضع البدائل والسيناريوهات المتعددة لأي حدث يواجهه؛ أن يُعدم البديل في سوريا لـ12 عاماً؟ وهل يمكن لعالم أن يعيش ضمن أحادية الخيار الواحد في منطقة تمور بالصراعات والخلافات والمفاجآت؟ لكن هذا ما حصل واقعاً وفعلاً وعلى مدى سنوات الجمر السورية التي كلّفت السوريين مليون شهيد، ونصف مليون معتقل وأضعافهم من الجرحى، وأكثر من 14 مليون مشرد، فضلاً عن دمار أكثر من 70 في المئة من بلادهم، ولا تزال التغريبة السورية مستمرة، بصمت وتواطؤ وتوافق عالمي، قلّما اتفق الغرب والشرق على سواه.
هل يمكن للغرب الذي يُعرف عنه وضع البدائل والسيناريوهات المتعددة لأي حدث يواجهه؛ أن يُعدم البديل في سوريا لـ12 عاماً؟ وهل يمكن لعالم أن يعيش ضمن أحادية الخيار الواحد في منطقة تمور بالصراعات والخلافات والمفاجآت؟ لكن هذا ما حصل واقعاً وفعلاً وعلى مدى سنوات الجمر السورية
قراءة سريعة على خلفية الطائفة النصيرية التي كانت تتسمى بذلك قبل أن يقدم العالم الفرنسي ماسينيون على تسميتها بالعلويين، تيمناً بالإرث العلوي المغربي، كون ماسينيون قضى وقتاً طويلاً هناك قبل أن يأتي إلى سوريا في ظل الاحتلال الفرنسي، وذلك بغية غسل تسمية تاريخية ارتبطت في أذهان السوريين بالهرطقة والتآمر على تاريخهم منذ تحالف الطائفة مع الصليبيين ضد الظاهر بيبرس، إلى تحالفها مع الصفويين ضد السلطان سليم، وانتهاءً بتحالفها مع الاحتلال الفرنسي، فكوفئت على أن يكون حكام سوريا مستقبلاً منها، عبر تمكينهم من جيش المشرق والقوات الخاصة المشرقية الفرنسية التي كانت نواة الجيش السوري، فكان أن قام قادة هذه القوات ومعظمهم من الأقليات النصيرية وغيرها؛ بانقلاباتهم المتعددة بعد رحيل الاستعمار الفرنسي بعامين فقط، إلى أن تمكنت الطائفة ممثلة برموزها الأسد وجديد وعمران بعد سنوات.
جوهر الخلاف الأوروبي مع الخلافة العثمانية خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر كان عن مصير الأقليات في الشرق العربي، ولذا أتى نشر التبشيريات والمدارس الغربية وجامعاتها من أجل تمكين هذه الأقليات. ولم تنجح الطائفة النصيرية على مدى تاريخها في توحيد صفوفها أبداً إلاّ في ظل الاستعمار الفرنسي، وتحت راية آل الأسد لاحقاً، نتيجة التشتت الديمغرافي النصيري في القرى والمناطق الجبلية، إذ إنه كان يصعب العثور على قرية نصيرية تضم أكثر من 250 فرداً، مما تعذّر على شخصية نصيرية أن تجمعهم وتفرض احترامها وقوتها وسطوتها، إلى أن جاء آل الأسد فوحدوهم عسكرياً، وبرز حافظ الأسد كممثل عن العشائر الكلبية، بينما برز صلاح جديد ممثلاً عن عشائر الخياطين.
وعلى الرغم من أن الكلبيين حسموا الصراع لصالحهم بقيادة حافظ الأسد حين أطاحوا بصلاح جديد عام 1970، إلاّ أن الأسد أدرك أهمية عشيرة الخياطين وسط الطائفة فقام بالزواج منهم من خلال أنيسة مخلوف، التي اعتبرتها هيلاري كلينتون في مذكراتها من الشخصيات المحورية التي يمكن فهم النظام السوري من خلالها.
فكرة الإصلاح الزراعي في مصر والشام والتي تُنسب في العادة للرئيس جمال عبد الناصر وحزب البعث ليست صحيحة على الإطلاق، وبالعودة إلى الحفريات التاريخية يتبين لنا أن أول من طرح فكرة الإصلاح الزراعي في سوريا هو الاحتلال الفرنسي، وذلك في بدايات عهده من أجل تمكين الفلاح النصيري والأقلوي بشكل عام، على حساب النخب المدينية من السنة وحتى المسيحيين. وقد ابتلع أكرم الحوراني الحموي ذلك فنادى بالإصلاح الزراعي دون أن يدرك تداعياته السياسية والاجتماعية لاحقاً، وأتبع ذلك نظام الأسد بإنشاء سدود في سهل الغاب وغيره القريب من الجبال النصيرية، من أجل هبوط الفلاح النصيري إلى المدن، ليجتمع في مدن يسهل من خلالها التحكم به، فتتعزز هويته بنفسه، وتقربه أكثر فأكثر من السلطة نتيجة المصالح التي ستربطه بها.
العالم قد تغير تماماً، وما كان يصلح للقرن الماضي لم يعد صالحاً للقرن الحالي، وما على الأقليات المتدثرة بلحاف أقلوي نصيري ممزق ومهلهل إلاّ أن تتحسس رأسها، وتتحسس مواقع أقدامها، عبر التفكير بشكل واقعي لحاضرها ومستقبلها، وهي ترى أغلبية السوريين مصممين على التخلي عن إرث استعماري ثقيل بفرض عصابة طائفية على الشعب السوري بكافة أطيافه وألوانه
تدرك
فرنسا صاحبة تأسيس نواة النظام الطائفي في سوريا، والذي ورثته لاحقاً روسيا بعد العدوان الثلاثي الفرنسي- البريطاني- الصهيوني على مصر عام 1956، أنه لا يوجد عائلة نصيرية اليوم في سوريا قادرة على ملء فراغ آل الأسد، وأن الهوية النصيرية في مهب الريح بدون آل الأسد، وبالتالي فهذا يعني أن ما كانت تسمى بالمسألة الشرقية ومسألة الأقليات في بلاد الشام أيضاً؛ على كف عفريت، إن هي تخلّت عن عائلة الأسد، التي لا تجد في غيرها من هو قادر على توحيد الطائفة النصيرية المهددة بالتفكك والانحلال مع رحيلها.
ولعل هذا ما يفسر تماماً تأكيد النصيريين في كل أحاديثهم "الأسد أو نحرق البلد"، بل وتأليه الأسد وأبيه، فرحيله يعني تهديدا للطوائف والأقليات التي ربطت مصيرها بالطائفة النصيرية كمخلب قط وذراع عسكري لها. ولذا تجد فرنسا في التخلي عن آل الأسد تخليا عن إرث كامل من التركة التاريخية مع الخلافة العثمانية بشأن الأقليات، والتي قاتلت من أجلها وضحت بالكثير من أجل الحصول عليها لتتمكن من فرض إرادتها وسطوتها على المشرق كله.
لكن بالمقابل، العالم قد تغير تماماً، وما كان يصلح للقرن الماضي لم يعد صالحاً للقرن الحالي، وما على الأقليات المتدثرة بلحاف أقلوي نصيري ممزق ومهلهل إلاّ أن تتحسس رأسها، وتتحسس مواقع أقدامها، عبر التفكير بشكل واقعي لحاضرها ومستقبلها، وهي ترى أغلبية السوريين مصممين على التخلي عن إرث استعماري ثقيل بفرض عصابة طائفية على الشعب السوري بكافة أطيافه وألوانه. ويبقى فهم التاريخ وتعرجاته ومنزلقاته مهماً للغاية في فهم الحاضر واستشراف المستقبل، وهو فهم إن كان دقيقاً سيجنب الكثير، وحبذا لو كان أباؤنا وأجدادنا أدركوا ذلك، لما كنا ربما قد وصلنا إلى ما نحن عليه.