كتاب عربي 21

هل تونس مجتمع يرفض التغيير؟

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
هذا سؤال شامل، وهو من صميم علم الاجتماع بمدارسه المختلفة. والمعاينة ترى التغيير جاريا في مناح كثيرة، فالموضات السلوكية تتغير تقريبا مع كل تغيير في موضات الموسيقى وصرخات الملابس وحتى في طرق الطبخ وما يأكل الناس في الشارع وفي بيوتهم، لكن اللافت للانتباه أن التغيير لم يشمل المواقف السياسية للنخب. ولذلك فإني أدقق السؤال كما يلي: هل النخبة التونسية ترفض التغيير؟ وأرى التغيير يحدث في مكان آخر بقوم آخرين ليس لهم لسان فصيح بعد.

توالي الرجّات المثيرة بلا جدوى

لقد شكلت الثورة حدثا مفصليا وكانت دعوة قوية لتغيير المواقف ومراجعة المسلّمات التي ظن أصحابها أنها يقينيات مطلقة، ولكن لم يعقب الثورة تغيير فعلي، وبعد عشر سنوات ما زال خطاب الإقصاء يفعل فعله ويقابله خطاب الذل والاستجداء الديمقراطي. كانت سنوات الثورة العشر بمثابة نسخة معادة مما قبل الثورة؛ بنفس الوجوه والجمل الكاشفة لرفض التغيير.

وجاء الانقلاب حدثا آخر بمثابة رجة منذرة بنهاية الخطابات والمواقف المتكلسة، وبعد شهور ثمانية وبعد محاولات عودة إلى المسار الديمقراطي، ينكشف لنا أن الانقلاب لم يؤثر ولم يخلق موجة تغيير، بل أعاد إنتاج الجمود الفكري والأيديولوجي. فالإقصائي لا يزال يقصي بزعم امتلاك الحقيقة، والمستجدي ما زال يمد يده مستجديا فترد عليه فارغة.
جاء الانقلاب حدثا آخر بمثابة رجة منذرة بنهاية الخطابات والمواقف المتكلسة، وبعد شهور ثمانية وبعد محاولات عودة إلى المسار الديمقراطي، ينكشف لنا أن الانقلاب لم يؤثر ولم يخلق موجة تغيير، بل أعاد إنتاج الجمود الفكري والأيديولوجي

جلسة مكتب مجلس النواب التي انعقدت الاثنين (28 آذار/ مارس) بشكل افتراضي أخرجت كل المواقف فوق السطح، فلم نلمس تغييرا وظلت ملاحظتنا الأولى في محلها من التحليل.

النخبة لم تتعلم من الانقلاب ولم تكتشف أثر غياب الديمقراطية، ولذلك تابعنا نفس الوجوه ونفس الموقف بنفس الجمل تقريبا دون سؤال واحد: هل كانت المواقف السابقة سليمة؟ إن الواقفين في مواقعهم الأبدية لم يؤمنوا بالثورة ولم ينتبهوا إلى أثر الانقلاب على الناس، وخاصة لجهة تنفير الناس (العاديين من السياسيين ومن السياسي برمته).

التغيير يجري في مكان آخر

لا أتحدث هنا عن تقليعات الشباب الذين كبر أغلبهم بعد الثورة واكتشفوا العالم في حالة حركة سريعة، حتى أن هواتفهم تتغير كل سنة، وهم يعيشون برغم فقرهم في آخر مراحل التطور؛ تكنولوجيا التواصل ويتفاعلون مع العالم، بينما تُرابط نخب المجتمع على مواقفها وجملها القديمة الميتة فعلا وأثرا. النخب لا تلاحظ التغيير الذي يجري حولها. ولا تفهم سر العزوف عن السياسي اليومي. وإحدى علامات عزوفه هي رفضه المشاركة في الاستشارة الرئاسية.

لقد تحمس شباب كثيرون للرئيس في حركته ولم ينتبهوا إلى صبغتها الانقلابية على المؤسسات، وكان ذلك طلب تغيير وانعتاق من النخب المتكلسة أكثر مما هو إيمان بالرئيس وبمشروعه الهلامي، فلما تبين أن الرئيس لا يختلف عن بقية النخب بل ربما ظهر أسوأ منها عزفوا عنه وولوا مدبرين ولم يعقّبوا. وهذا مؤشر تغيير لم يُقرأ من هذه الزاوية. وذهبت النخب الميتة (وأتحمل كلفة هذا التوصيف) إلى أن الشباب يؤمن بها، لذلك رفض الاستشارة. وأرى العكس، لقد كانت الاستشارة أكبر علامة على قدم النخب وعلى جمودها، بينما مطلب التغيير يتحول إلى مجالات أخرى يكون منها عزوف أبدي عن مشاركة في الشأن العام تأتي على الرئيس ومشروعه وعلى النخب وأفكارها ومناوراتها.
لقد تحمس شباب كثيرون للرئيس في حركته ولم ينتبهوا إلى صبغتها الانقلابية على المؤسسات، وكان ذلك طلب تغيير وانعتاق من النخب المتكلسة أكثر مما هو إيمان بالرئيس وبمشروعه الهلامي، فلما تبين أن الرئيس لا يختلف عن بقية النخب بل ربما ظهر أسوأ منها عزفوا عنه وولوا مدبرين ولم يعقّبوا

والتحدي مرفوع الآن أمام الجميع أن يقنعوا فئات الأعمار بين العشرين والخامسة والثلاثين بأن تذهب إلى صندوق انتخابي خلال السنوات القادمة. لماذا يعزف الشباب عن الأحزاب وعن المشاركة السياسية عامة إلا ما أوحى بتغيير سرع وفعال؟ هذا لا يعود إلى طبيعة تفكير الشباب بقدر ما يعود إلى جمود النخب، وخاصة مكوثها طويلا في معركة الاستئصال السياسي الموجه خصيصا وحصرا ضد طرف سياسي بدعاوى كاذبة لم تعد تنطلي إلا على مروجيها. إن الشباب رغم تهمة عدم التسيس (التي تبدع النخب في توصيفها بنية احتقار عقول الشباب) يعيشون خارج هذه المعارك ولا يولونها اهتماما وربما يعتبرها الكثير منهم معركة مدمرة لطموحاتهم. وقد ظهرت على ذلك مؤشرات كثيرة لم يلتقطها أحد.

هناك تغيير اجتماعي عميق لكنه ينأى بنفسه عن المجال السياسي المحتكَر من قِبل من يرفض التغيير ويعيش فقط بإعادة إنتاج التخلف السياسي، وهذا يطرح أسئلة على المستقبل السياسي للبلد.

سيحدث تغيير عميق برغم الجمود الظاهر

لقد كانت الثورة رجّة عميقة وأنتجت الحرية المتوحشة (بلا ضوابط)، وكان الانقلاب رجة ثانية وأحدث ما يكفي من النفور من النخب، وهذا تراكم ينتج اتجاهات جديدة في سلوك الناس بعيدا عن التوجيه النخبوي القديم، يمكننا الحديث عن موت الأيديولوجيات وموت حملتها (الموتى فكريا). حدثان حررا الناس من النخب الأيديولوجية ومن معاركها ومن خشية الدولة البوليسية وأجهزتها، رغم ظهور تعبيرات خوف ومنافقة للأجهزة. وقد ينتج الانقلاب المزيد من الحرية رغم سعيه إلى القمع المخملي الذي يمارسه على خصومه الظاهرين.
لقد كانت الثورة رجّة عميقة وأنتجت الحرية المتوحشة (بلا ضوابط)، وكان الانقلاب رجة ثانية وأحدث ما يكفي من النفور من النخب، وهذا تراكم ينتج اتجاهات جديدة في سلوك الناس بعيدا عن التوجيه النخبوي القديم

المزيد من الحرية سيأتي عبر الجوع والفقر والبطالة. لم يعد عند الناس ما يخسرونه، ولم يعد لديهم قبل ذلك ما يرجونه من النخب السياسية التي مارست عليهم التحقير والتوظيف. ستكون هناك حالة تخل عن الالتزام، وهي حركة تغيير في العمق، حالة ستسميها النخب بالفوضى لأنها حالة لا تقدم أية علامات ولاء للأطروحات السائدة في مرحلة أولى، لتصل لاحقا إلى خلق ولاءات مختلفة بناء على مشاريع مختلفة بأشخاص آخرين، ضمن دولة أخرى ليس فيها التوصيف السائد ولا تقوم على فكرة ثابتة، بل تقودها مصلحة المستفيدين لا أسبقية الأفكار الأيديولوجية ضمن ترسيمات مفوتة.

لننظر مثالا بسيطا وحيّا في لحظته، لقد حدثت عملية الخضيرة في الأرض المحتلة واجتمع وزراء التطبيع لينددوا بها ويقدموا فروض الولاء للكيان ولم يتفاعل أحد. لقد سقطت فلسطين من روح الشباب بعد أن تبين لهم أن مقولة "التطبيع خيانة عظمى" كانت كذبة انتخابية، لن يصدق الشباب خطاب النخب التي زعمت الدفاع عن فلسطين وقبضت من ذلك غنائم جزيلة، واليقين أنه بود النخب أن تظل فلسطين محتلة ليقبض هؤلاء من الدفاع عنها خيرا وفيرا.

هل حصلت حالة مماثلة يمكن القياس عليها؟ لا أراها حصلت في تجارب الديمقراطية الغربية التي ولدت ضمن الدولة الأمة أو الدولة الوطنية، وبلورت وسائل الحكم الحالية التي كانت تونس بعض مستورديها ضمن سياق دولي وثقافي وتاريخي حُدد من خارجها كما استوردت السيارات والملابس.

ما ملامح هذه الحالة؟ لا أملك خيالا يكفي لرسم ملامحها، ولكن اللحظة كشفت نهاية مرحلة بنخبها وأفكارها وشخصياتها وجملها السياسية الميتة (وهذا بعض فضل الانقلاب). وما لم تفعله الثورة بالنخب فعله الانقلاب، وهو جزء منها لا يختلف عنها قيد أنملة. إنها إعلان حالة وفاة عامة وحالة ولادة شاملة، لكن المواليد لم ينطقوا بعد.

النخب لم تتغير ولن تتغير، لكن الناس يؤمنون كل يوم بقول طرفة بن العبد الصعلوك:

إذا كنت لا تستطيع دفع منيتي    فدعني أبادرها بما ملكت يدي
التعليقات (0)