هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
هناك تواريخ فاصلة في حياة الأمم وفي سجل القادة، تدخل الكتب وتتدارسها الأجيال، جيلاً تلو آخر، ولا تُمحى. من زمننا القريب تواريخ فاصلة مثل 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 أو 2 أغسطس (آب) 1990 أو 11 سبتمبر (أيلول) 2001. 24 فبراير (شباط) الماضي، ذلك اليوم الذي اقتحمت فيه دبابات فلاديمير بوتين حدود أوكرانيا سيضاف إلى تلك التواريخ التي أرّخت لمحطات مهمة في تاريخنا المعاصر: مثل سقوط جدار برلين وغزو صدام للكويت و«غزوة» بن لادن لنيويورك. نحن نشهد الآن فصلاً جديداً لم تكن البشرية، خصوصاً من بقي حياً من أهل أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، تتوقع أن تتكرر صوره المؤلمة حية على الشاشات أمام عيونهم.
كيفما انتهت هذه الحرب، لن تعود علاقات روسيا وأوكرانيا إلى ما كانت عليه، رغم التحديات التي كانت تواجه تلك العلاقات منذ استقلال أوكرانيا. ولن تعود أحوال روسيا إلى ما عرفته خلال العقود الثلاثة الماضية من انفتاح على الغرب وأسواقه وتحول اقتصادي أنعش أوضاع المواطنين الروس بالمقارنة مع ما كانوا عليه خلال الحقبة السوفياتية. والأهم، لن يعود فلاديمير بوتين الضيف الذي يحظى بالترحيب في عواصم القرار الغربية، كما كان الحال عندما راهن الغرب على علاقات طبيعية معه توفر الاستقرار في العلاقات الروسية – الأوروبية، وظل الأمر كذلك حتى بعد حرب بوتين في الشيشان وضمه شبه جزيرة القرم وتدخله في الحرب السورية لإنقاذ نظام بشار الأسد، رغم الإدانات الخجولة التي واجهت ذلك التدخل.
تبدلت أسماء المدن ولم يتبدل سلوك بوتين. وما يقوم به الجيش الروسي في أوكرانيا لا يختلف عمّا قام به في سوريا. هناك غضَّ الغرب النظر تحت ستار حجة عقيمة استخدمها إعلام موسكو ودمشق ومَن مشي في صفهما من «ممانعين» عرب: أن بوتين والأسد يحاربان «الإرهاب» في سوريا. حجة تستحق الإدانة بالطبع، لأن القوى الغربية أشاحت نظرها عن المجازر الكيماوية وعن البراميل المتفجرة وعن قتل وتهجير نصف الشعب السوري، وتدمير مدن وبلدات فوق رؤوس ساكنيها. ولو كنتَ مواطناً سورياً من أبناء إدلب أو درعا أو حماة، فإنك سوف تسأل القادة الغربيين الذين يستنكرون اليوم قصف المدافع الروسية لمدن مثل ماريوبول وسومي وخاركيف: لماذا تستحق هذه المدن تعاطفاً غربياً واحتشاداً في وجه العمليات الروسية، لم تنعم بمثله المدن والبلدات السورية؟
اعتقد القادة الغربيون أن الانفتاح الاقتصادي الروسي على أسواقهم، ودخول البضائع التي تحمل أسماء الماركات العالمية إلى مخازن ساحة بوشكين في موسكو سيكون كفيلاً بضمان انتصار «الغلاسنوست» في موسكو وبأن الأفكار الليبرالية التي راجت مع غورباتشوف سيكون صعباً التراجع عنها. ولم يصدق كثيرون أن قلب أوروبا يمكن أن يشهد في هذا العصر منظر دبابات جاهزة لاجتياح بلد مجاور، بحجة أن نظامه يتبع سياسة لا ترضي أصحاب تلك الدبابات.
مع سقوط حدود أوكرانيا سقطت نظرية انتصار القيم الليبرالية والمبادئ الديمقراطية التي روّج لها فرنسيس فوكوياما عندما توقع «نهاية التاريخ». كان ذلك في عام 1992 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. قامت تلك النظرية على حلم كبير يبدو الآن أنه كان أشبه بالسراب، أن تلك القيم والمبادئ هي التي ستغزو العالم، ولن تكون هناك رجعة عنها، وأن الأفكار التوتاليتارية والعقائد الجامدة إلى انهيار، لأن الأنظمة التي تعتنق هذه الأفكار مصيرها الزوال.
كانت التوقعات أن الدرس الذي يوفره انهيار الاتحاد السوفياتي سيكون كافياً كي تتعلم منه أنظمة أخرى، من بينها النظام الذي قام على أنقاض ذلك الانهيار. وكان كافياً أن يدخل أروقة الكرملين رجل لا يؤمن بشيء من تلك الأفكار ولا بحق الشعوب في اختيار مصيرها، إذا كانت مقيمة بجوار روسيا، كي يدمر الأحلام التي راهن عليها الغرب على مدى 30 سنة.
أراد فلاديمير بوتين أن يعيد الوضع عند جيرانه من دول أوروبا الشرقية السابقة إلى ما كان قبل عام 1997. أرادها أن تسحب أسلحتها الغربية، وأن تلقي بتحالفاتها الجديدة في المهملات، وأن تعود طائعة إلى ما كانت عليه، وأن تقبل بما تسمح لها به قيادة موسكو. سعي هذه الدول للتحرر من النفوذ الروسي فهمه بوتين على أنه تهديد لأمن روسيا. وقرر أن يجعل أوكرانيا مثلاً لما يمكن أن ينتهي إليه مصير تلك الدول عندما تقاوم هيمنة موسكو.
غير أن أوكرانيا وجيران روسيا الآخرين قرروا عدم الخنوع، وحصل التفاف غربي استثنائي يدعم قرارهم. حتى دول مثل الصين والهند وهنغاريا، تجد حرجاً في توفير الدعم المطلق لبوتين بسبب خرقه الفاضح لقواعد العلاقات الدولية. لأن الاعتراف غير القانوني بـ«جمهوريات» على نسق دونيتسك ولوغانسك، داخل حدود بلدان مجاورة، يفتح شهية دول كثيرة على ارتكاب العملية نفسها، ويفخخ كثيراً من الخرائط في الشرق الأوسط وحول العالم.
نتيجة وحيدة مؤكدة حتى الآن من حرب بوتين في أوكرانيا هي الالتفاف الغربي حول هذا البلد والتفاف شعبه حول رئيسه فولوديمير زيلينسكي. فيما تجد روسيا نفسها في عزلة تعيدها إلى ما قبل 1989، إلى زمن الحصار السياسي والاقتصادي الغربي. عودة إلى الإقامة خلف أسوار الكرملين، عندما كانت القطيعة كاملة بين روسيا والعالم الغربي. وهي عودة لم يجد وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، أي حرج فيها عندما قال إن بلاده ستتعلم أن تعيش من دون الاعتماد على الغرب.
(الشرق الأوسط اللندنية)