مقالات مختارة

الانتخابات الفرنسية: صعود اليمين وازدهار الإسلاموفوبيا

مدى الفاتح
1300x600
1300x600

أواسط كانون الثاني/ يناير الماضي حكم القضاء الفرنسي على اليميني إيريك زمور بغرامة قدرها عشرة آلاف يورو كعقوبة لاستخدامه توصيفات عنصرية إبان حديثه عن المهاجرين اليافعين. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يدان فيها مرشح الرئاسة الفرنسية المثير للجدل بتهمة العنصرية وكراهية الأجانب.


يشكك كثيرون في فرص فوز زمور، الإعلامي السابق المهووس بكراهية الأجانب والإسلام، بالرئاسة، إلا أن آخرين يحذرون بدورهم من تكرار سيناريو دونالد ترامب.


التسامح الواضح مع ما يتفوه به اليمينيون من آراء حول المهاجرين عامة والمسلمين خاصة يجعلنا ندرك إلى أي مدى الخطاب اليميني الشعبوي متمدد في البلاد. هذا التمدد يسمح بالتمادي في كيل عبارات التمييز مع اليقين من الإفلات من العقاب، وفي هذا المشهد تبدو عقوبة زمور الرمزية مجرد ذر للرماد على العيون ومحاولة لإخفاء الواقع الذي تزدهر فيه كراهية العرب والمسلمين والذي تتجرأ فيه منافسة يمينية أخرى هي فاليري بيكريس على استعادة تعبيرات نيكولا ساركوزي وهي تدلي بتصريحها الذي قالت فيه أنه حان الوقت لإخراج المقشة القديمة لتنظيف أحياء المدينة من عنف البرابرة الجدد.


حتى بداية هذا العقد الماضي لم نكن نظن أن فرنسا سوف تنتج يميناً أكثر راديكالية من يمين ماري لوبان المعروفة بآرائها الرافضة حتى لانتشار المطاعم الحلال، وأن هذا الطرح سوف يجتذب إلى صفه أشخاصاً مثل القيادي في حزب لوبان والبرلماني الأوروبي جيروم ريفيير.


لتبرير انشقاقه يقول ريفيير أن لوبان غير صالحة للقيادة، فهي غير قادرة على المواجهة والاعتراف العلني بإيمانها بنظرية «التبادل العظيم». للتذكير فإن هذه النظرية العنصرية تعتبر أن المجتمعات الغربية بصدد تحول سكاني وشيك يحل فيه المهاجرون، خاصة المسلمين، محل السكان الأصليين، وهي بذلك تدعو للتوحد والتصدي لذلك.


بشكل عام يشغل الحوار حول الإسلام، بما يشمل النظر إليه كتهديد إجتماعي وديموغرافي وأمني، حيزاً مهماً في السباق الانتخابي الفرنسي. هذا يفسر تقدم اليمينيين على حساب اليسار ومزايدة أغلب المرشحين على بعضهم البعض فيما يتعلق بمستقبل التعامل مع المسلمين.


هذه النظرة الشعبوية التي تتغذى على الجهل والإسلاموفوبيا ليست وليدة اليوم، بل ظلت فرنسا متشبعة بها على مدى سنوات طويلة ظهر فيها تمييز تستَّر تحت عباءة الدفاع عن علمانية البلد وقيمها، تارة بمنع الحجاب في المدارس وتارة أخرى بمنع المحجبات من مزاولة الأعمال العامة أو حتى المشاركة في المنافسات الرياضية وتارة ثالثة بالتضييق على بناء المساجد الجديدة ومراقبتها بحجة حماية المجتمع من التطرف، حتى وصلنا لحقبة الرئيس إيمانويل ماكرون الذي تحدث عما سماها «أزمة الإسلام».


لا يمكن لأحد أن يدعي اليوم أن المسلمين في فرنسا يحظون بمعاملة متساوية كالتي يحظى بها المواطنون الكاثوليك أو غيرهم من أتباع الديانات، بما فيها الديانات التي لا تشكل ثقلاكبيراً ولا تحظى بالكثير من المؤمنين. في بلاد الحرية يكفي أن يخطب إمام بما لا يعجب السلطات حتى تقوم بترحيله إلى موطنه الأصلي وإغلاق المسجد أو هدمه، أي أن الأمر لا يتوقف على تغييب الإمام وإنما على تغييب المسجد أيضاً في سياسة هي أشبه بسياسة العقاب الجماعي.

يأمل الناخبون القلقون من تنامي مد معاداة المسلمين أن يتمكن اليساريون من الفوز لأن أولئك معروفون بنزعتهم الاجتماعية وبانطلاقهم من قيم تساوي، لحد معقول، بين أبناء الوطن


المشكلة هي أن من يحدد ما إذا كان الخطاب متطرفاً أو منافياً لصحيح الإسلام ليس الأئمة أو العلماء وإنما السلطات الفرنسية ومن تستعين بهم من مخبرين محليين. هذا كله بجانب التمييز في العمل وفي غيره من مجالات الحياة أفرز مجتمعاً غير صحياً وبعيداً عن المساواة وقاد كثيراً من أبناء المسلمين للاقتناع بالدعاية التي تنشرها التنظيمات المتطرفة وسطهم والتي تخبرهم أن هذا البلد ليس بلدهم وأن الفرنسيين يكرهونهم بسبب دينهم وأن الفارق الوحيد بين التنظيمات النازية وغيرها هو أنها أكثر صراحة في تعبيرها عما تؤمن به.


يأمل الناخبون القلقون من تنامي مد معاداة المسلمين أن يتمكن اليساريون من الفوز لأن أولئك معروفون بنزعتهم الاجتماعية وبانطلاقهم من قيم تساوي، لحد معقول، بين أبناء الوطن.


الواقع بهذا الاتجاه لا يدفع للتفاؤل، ليس فقط بسبب تشتت المرشحين اليساريين أو قوة اليمين، وإنما لأن الخبرة أثبتت أن هذه السياسة الفرنسية تجاه الإسلام غير قابلة للتغيير وهي مسنودة من قبل مؤسسات الدولة العميقة التي تجمع بشكل فريد بين العلمانية التي يجب أن تكون على مسافة واحدة من جميع الأديان وبين الكاثوليكية القروسطية التي ترى في الإسلام غريماً لها.


المعركة «لتطويق الإسلام» لم تقتصر على الحدود الفرنسية، بل تعدت ذلك إلى مستوى السياسة الخارجية. نشاهد ذلك في التحركات الفرنسية وسياستها الإفريقية المبنية على أولوية قطع الطريق على ما تعتبره «تهديداً إسلامياً» والتي تذكر بحقبة الاستعمار. الأزمة الحالية مع مالي ومع غيرها من بلدان غرب إفريقيا ربما تكون مثالاجيداً، فبحجة محاربة الإرهاب أو تدعيم الديمقراطية أو نشر حقوق الإنسان أو غيرها من اللافتات البراقة تحاول فرنسا أن تحدد خيارات الدول الإفريقية، ذات الغالبية المسلمة، بما يشمل طريقة الحكم فيها الذي ترى أنه يجب أن يكون علمانياً.


المثال الثاني الذي يوضح تأثير النظر للإسلام كمهدد على السياسة الفرنسية الخارجية هو العلاقة مع تركيا، ففي تصريح للرئيس الأسبق ساركوزي عقب تركه منصبه قال إن السبب الحقيقي وراء رفض الاتحاد الأوروبي ضم تركيا إليه هو كونها مسلمة وأن كل ما يذكر عن اشتراطات ومطالبات حقوقية واقتصادية هو مجرد ذرائع، أو حسب تعبيره، «مجرد نفاق» لأن الأوروبيين لا يمكن أن يسمحوا بدخول كل هذه الكثافة السكانية المسلمة إلى ناديهم بما سوف يمثله ذلك من تأثير.


في حقبة الرئيس إيمانويل ماكرون بدا التوتر واضحًا بين كل من فرنسا وتركيا، ورغم أنهما مرتبطان بكثير من المصالح التجارية والثقافية والأمنية، إلا أن التلاسن والحرب الإعلامية وصلت بين البلدين إلى تصعيد غير مسبوق بدا فيه ماكرون الذي كان يسعى لتكوين جبهة من الحلفاء لمواجهة التحركات التركية أشبه بمن يرى في نفسه بطلاتاريخياً في قصص الحروب الصليبية.


لكن لماذا كل هذه الكراهية للإسلام؟ بالنسبة لأوليفييه روا وهو كاتب فرنسي مهتم بالدراسات حول العالم الإسلامي، فإن هذه الحالة لا مبرر لها، لأنه إذا كان الأمر أمر تناقض مع القيم الأوروبية باعتبارها مسيحية، فإن لا دين أقرب للمسيحية من الإسلام، حيث لا يكاد يوجد تناقض حينما يتعلق الأمر بالقيم الكلاسيكية الخاصة بالأسرة والأخلاق بين الإسلام والمسيحية. يوضح روا كل ذلك بتفصيل في كتابه «هل أوروبا مسيحية؟» ويقول من ناحية أخرى، إذا كان سبب العداء هو العلمانية، فذلك أيضاً مبرر غامض لأن الأصل أن تكون الدولة، على الأقل وفق تعبيرات منظري العلمانية الفرنسية، محايدة إزاء كل الأديان والفلسفات ولا مبرر لأن تتخذ موقفًا معادياً من دين أو ثقافة معينة. من جهة أخرى فإن وجود ناشطين عرب مدافعين بضراوة عن الاتجاهات اليمينية هو من الظواهر المحيرة المتعلقة بالسياق الانتخابي في فرنسا، كما في غيرها من «الديموقراطيات» الغربية. هذه الظاهرة التي لاحظناها مع أسماء كانت تدافع بحماس عن برنامج دونالد ترامب وتدافع اليوم بحماس مماثل عن شخصية مثل زمور يصعب أن نجد لها تفسيراً.

* كاتب سوداني

 

(صحيفة القدس العربي اللندنية)

التعليقات (0)