هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
استجاب بيتهوفن إلى طلب صديقه، عازف الكمان البارع، والمشهور، فرانس كلمنت (1780- 1840)، فشرع في نهاية 1805 في كتابة كونشرتو للكمان، وكان الإثنان في ذروة شهرتهما، وكانا منذ 1794 صديقين مقربين، فقدم كلمنت، باعتباره قائدا لمسرح "آن دير" بمدينة فيينا.
والسمفونية الثالثة لبيتهوفن، في 7 نيسان/ أبريل 1805، وقد استقبلت بصخب هائل، أولا، لأنها علامة كبرى في الانتقال من الكلاسيكية إلى الرومانسية.
وتعتبر
بأنها مثلت "قطيعة" مع الكلاسيكية في الشكل السمفوني والطول والتناغم
والمحتوى العاطفي والثقافي، وثانيا، لأن بيتهوفن أهدى السمفونية إلى نابليون
بونابرت، فقد كان يعتقد أن بونابرت يجسد المُثل الديمقراطية للثورة الفرنسية.
ولكنه بعد بضعة أشهر سحب الإهداء، بعد إعلان بونابرت نفسه إمبراطورا للفرنسيين، فثار بيتهوفن غاضبا وصرخ: "إذن فهو ليس أكثر من بشر عادي! الآن، سوف يطأ قدمه جميع حقوق الإنسان، وسينغمس فقط في طموحه؛ الآن سيعتقد نفسه متفوقا على جميع البشر، يصبح طاغية!"، وأمسك بالإهداء ومزقه ملقيا به على الأرض.
اقرأ أيضا: عن أحمد الحجّار (1956 – 2022): الشوقُ الأبديّ
أُهملت الكونشرتو لسنوات، لكن عندما خطر لفيلكس مندلسون الموسيقار الألماني وقائد الأوركسترا، في عام 1844، تقديمها في لندن، لاقت أعماله ترحيبا كبيرا وكان في قمة عطائه كمؤلف موسيقي، وكان حافزه لتقديمها بعد كل هذه السنوات، هو جوزيف يواكيم، عازف الكمان المجري الماهر للغاية، الذي لم يكن قد أكمل وقتها، عامه الثالث عشر.
وهكذا مع قيادة مندلسون للأوركسترا، وعزف يواكيم على الكمان بدأت الكونشرتو، في الحصول على مكانتها باعتبارها "ملكة كونشرتات الكمان"، لا تنافسها سوى قلة، منها تلك التي ألفها مندلسون وبرامز.
وتخبرنا
المراجع الموسيقية أنه مع نشأة الفيولينه وتقدم العزف عليها في عصر
"الباروك" (القرنان السابع عشر والثامن عشر، تقريبا) نشأ أيضا فن التأليف
للآلات الوترية التي تتجلى المهارة في العزف عليها.
وأهم
ما ميز "الباروك"، في المجال الموسيقي التمييز القاطع بين الموسيقى
الدينية والدنيوية، وبين موسيقى الغناء وموسيقى الآلات، وكانت نشأة الكونشرتو أحد
أبرز ابتكارت ذلك العصر؛ فكلمة "كونشرتو" مشتقة من اللغة اللاتينية
وتعني "المباراة" في المهارة لإبراز مفاتن الأداء.
ويقوم
الأسلوب "الكونشرني" على قاعدة بناء التعارض بين إظهار المهارة الفنية
والخفة والرشاقة من ناحية، وبين العذوبة الشاعرية الهادئة من جهة أخرى، وهذا هو
المقصود من الكونشرتو منذ العصر "الرومانتيكي" حتى عصرنا الحديث.
وذلك لأن الآلة المنفردة تقوم بكل الأداء الذي يكشف عن المهارة الفائقة للعازف المنفرد في العزف عليها من ناحية، وإمكانيات الآلة على التعبير عن شتى الانفعالات والأحاسيس ووسائل الأداء الموسيقي في يد عازف ماهر من ناحية أخرى، في حين تقوم الأوركسترا بمصاحبتها وتعزف أجزاء تجلي التعارض والتكامل في الطابع والحركة.
وفيما
يتعلق إجمالا ببيتهوفن، يلاحظ مؤرخو الموسيقى أنه في مجال المقارنة بينه وبين
موزارت، فإن لودفيج فون بيتهوفن (1770- 1827) أوصل الفن السيمفوني (عبر أعماله
التسعة الشهيرة) إلى ذروة في الإبداع لم يصل إليها موسيقي قبله أو بعده، وأنه
يتفوق، ومن بعيد، على إنتاج موزارت السيمفوني، في حين أن أماديوس موزارت (1756-
1791) فعل الشيء نفسه بالنسبة إلى فن الكونشرتو.
ويضربون مثلا بعملين أساسيين
لموزارت، وهما: كونشرتو البيانو رقم 24، وكونشرتو البيانو رقم 25، اللذان أبدى
بيتهوفن إعجابه البالغ بهما، وسعيه دون نجاح إلى تجاوزهما، وقد يكون في تعليقه على
(24) خير تعبير، حيث قال: "إن أيا منا لن يتمكن أبدا من التفكير في كتابة لحن
مثل هذا".
والسؤال:
هل كان الاستقبال الفاتر لكونشرتو الكمان الوحيد لبيتهوفن، سببا في إحجامه عن
تكرار المحاولة طوال 21 عاما، أم أن "فشله" في ملاحقة موزارت، هو السبب،
أم كان نجاحه المدوي في السيمفونيات قد منعه من المحاولة؟
والواقع
أن كونشرتو الكمان، الذي يعد بحق "ملكة" الكونشرتات، عمل صعب، فهو يتطلب
مهارات فائقة من عازف الكمان، وما زال يعتبر اختبارا صعبا للعازفين وللأوركسترا
بمجمله، بما يتضمنه من عمق عاطفي، وغنائي، وتعقيد لحني، وتوازن دقيق بين أدوار كل
من الكمان والأوركسترا في كل العمل.
وبعد ثلاث ضربات على الطبل الكبير تمهد المقدمة التي تعزفها الأوركسترا للكمان الذي يبدأ بأداء جمل موسيقية صعبة قبل عرض اللحن الرئيسي، ليستمر الأداء وفق شكل السوناتا الكلاسيكي.
ولحن
الحركة الثانية البطيئة الرئيسي بسيط وغنائي، لا يؤديه الكمان بصورة مباشرة بل
يوحي به، ويتقافز حوله أو يجيب عليه خلال كل الحركة التي تنتهي بالكادنسا، وهي جزء
يقدمه العازف المنفرد لوحده، ويتميز بحرية الإيقاع وقد يرتجله العازف أو يكتبه
المؤلف نفسه.
وهناك
تسجيلات عديدة لكونشرتو الكمان، أكثرها شهرة وشيوعا، الأداء الذي قدمته فرقة برلين
الفيلهارمونية، عام 1992، بقيادة دانيل بارنبويم، وعزف اسحق برلمان على الكمان، وهناك
ترشيح آخر، وهو أداء أوركسترا برلين الفيلهارمونية بقيادة هيربرت فون كارايان
(قائد الأوركسترا والمؤلف الموسيقي النمساوي (1908- 1989)، الذي يعد من أفضل
قائدي الفرق السمفونية خلال القرن العشرين)، وعازف الكمان الفرنسي، كريستيان فيراس
(1933- 1982)، وجرى التسجيل عام 1967.