كان البعث يزعم أن دمشق هي قلب العروبة النابض، وكانت كذلك.. والنابض آلة معدنية تتمدد وتنقبض وتتلوى من الألم، ثم تعود إلى سيرتها الأولى. وإن صديقاً أثنى على مقال لي، ووجد فيه خطأ واحداً وهو أني أدخلت الباء على المأخوذ، فالصواب أنها تدخل على المتروك، واستشهد بقوله تعالى: "أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ"، فماحكت ودافعت عن غلطي بقوله تعالى: "فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً" وأوردت أشعاراً للمتنبي وعدي بن زيد العبادي، والمعري، وأبي تمام، دخلت فيها الباء على المأخوذ، فسكت صديقي، وهو شاعر، واستمهلني فأمهلته، ثم تنادينا واجتمعنا وتطاحنا بسيوف وسهام البراهين، ورأى صاحبي أنَّ القرآن يؤخذ دليلاً، وكذلك
الشعر الجاهلي، أما هؤلاء المذكورون فخالط شعرهم اللحن، ثم وجدت مصرفاً فقلت إن الباء قد تدخل على المأخوذ إن كان الأعلى والأجلّ، فسكت صاحبي على مضض.
علمت أن حاكم إمارة دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في عام 2002، أقام لجائزة القرآن الكريم فرعاً لتحفيظ القرآن الكريم في المؤسسات العقابية والإصلاحية في دبي، لوزع الكرامة في نفوس السجناء بحفظ القرآن.
وتنص شرائع الإمارة على تخفيض عقوبة السجن 20 عاماً لمن يحفظ القرآن الكريم كاملاً، و15 عاماً لمن يحفظ منه 20 جزءاً، و10 سنوات لمن يحفظ 15 جزءاً، وخمس سنوات لمن يحفظ 10 أجزاء، أما من يحفظ خمسة أجزاء فتخفض مدة عقوبته عاماً واحداً.
وتخفف إيطاليا والبرازيل بعض العقوبات بالقراءة أيضاً. لكن لا يفرحنّ القارئ كثيرا بتلك الشريعة السابقة، فلغة التخاطب في الإمارات هي الإنجليزية حسب علمي!
وقرأت أن شارل الحلو كان يجهل
العربية، وصار رئيساً لدولة عربية، فنُصح بالقرآن وشعر المتنبي، فأتقنها واحلولو. وتلفتُّ حولي فلم أجد بين الرؤساء العرب رئيساً عربي اللسان ناصع البيان؛ سوى علّامة عصره والآوان الرئيس قيس سعيد الذي تعرفونه، فهو لا يخطب إلا غاضباً منتفضاً متربصاً مثل النابض، تحمرُّ منه الحدق وتبرق منه الأنياب، ففتن الناس بقعقعته، حتى أذهلهم عن كيده. والرجل يذكرني "بغلولوم" أحد شخصيات فيلم "سيد الخواتم" الخيالية.
ووجدت نصباً من رئيس تحرير صحيفة كان قد استكتبني، لكنه سرّحني سراحاً جميلاً لأني أُكثر من استعمال العبارات المتروكة، التي "تَعاوَرُها الرِياحُ وَكُلُّ جَونٍ". وكانت غايتي هي استئناس مفردات من العربية العرباء لا من العربية اللاتينية "التامة" الشائعة في الصحافة العربية، وهذا فن صعبٌ لا يؤتاه إلا كل خبير. وقلت لرئيس التحرير إن الكتّاب المعاصرين يطبخون كلماتهم بزيت الآلات والسيارات، وإني أسعى لجعل بعض اللحم في البرغل الذي أطبخه بسمن الأنعام، وقد أجعل فيه زبيباً ولوزاً، فأزينه بآيات قرآنية، أو أحاديث نبوية، أو أشعار عربية، لكني لم أستطع أن أقنع رئيس التحرير برأيي، فهو يرى أن الصحافة هي فن الكتابة السهلة واستخدام الكلمات الرخيصة، وطالبني بأن أبتعد عن الكلمات التي لم يطمثها إنس ولا جان.
كنت أجمع الكلمات والعبارات اللاتينية المدسوسة في كتبنا، وأنا أجاهد في دحر الشحوم الثلاثية عن دمي على طرف النهر، وأدّخرها في رأسي، فجمعت كثيراً من العبارات اللاتينية الشائعة في العربية، وقد أنشرها ذات يوم في مقال.
وما دمنا ذكرنا شارل الحلو والعلامة الباقعة قيس سعيد، فسنذكر الخليفة وليد بن عبد الملك، الخليفة الأموي الدمشقي، وكان مترفاً كثير المال، لم يرزقه الله جمالاً في الخلقة، وكان طويلاً أسمر الوجه. وله فضائل كثيرة رحمه الله، هو من فتح بوابة الأندلس لمن أتى بعده، فعمّرها بالإسلام، وشارك في فتح بلاد الترك، وغزا الروم مرات في دولة أبيه. لكنه كان يلحن في الكلام، ولسانه به عجمة، فدرس النحو عدة أشهر، لكن ذلك لم ينفعه وظل على لحنه، حتى إنه قرأ على المنبر "يا ليتُها" بالضم.
ورغبت لو سمعت ملكاً عربياً قليل اللحن، إلا أنهم جميعاً ملحنون ومطربون أكثر من شعبان عبد الرحيم وهاني شاكر (أخو فضل شاكر في الطرب)، وقد فرح كثيرون بانتصار قيس سعيد الفصيح على خصمه الأعجم نبيل القروي، "فليتُها" كانت القاضية.
عجبت وما أزال أعجب كثيراً من علوّ شأن عبد الناصر ومن كثرة محبيه، والمغترّين ببيانه على لحنه وإطرابه، بل إن خصومه كانوا يجلونه، ثم وجدت تفسير ذلك في كتاب "لعبة الأمم"، يقول فيه مايز كوبلاند إن أمريكا وجدت في عبد الناصر ضالتها، وهي التي قدمته ووطأت له الأكناف والمنابر.
خسرت صديقاً عزيزاً لأنه وجدني ألمز عبد الناصر في مقالاتي، ولم يكن لعبد الناصر فضائل الوليد بن عبد الملك، فقد خسر عبد الناصر حروبه كلها على ألحان أم كلثوم وعبد الحليم.
واستشهدت مرّة بالبيروني في يوم العربية التي تحتفل بها اليونسكو مرة في السنة ذكرى، وهي تحكم على اللغات بكثرة المتحدثين بها لا بجودتها وبلاغتها وثرائها. وكان البيروني رحالة وفيلسوفاً وفلكياً وجغرافياً وجيولوجياً ورياضياً وصيدلانياً ومؤرخاً ومترجماً، ووُصف بأنه من بين أعظم العقول الإسلامية، وقد قال يوماً: لأن أُشتم بالعربية خير لي من أن أُمدح بالفارسية. فكتب لي أحد الأصدقاء الأعاجم شتيمة في التعليق غيرة على لغته التي لُمز عليها، ولو قال لي: ثكلتك أمك، لمحضته قلباً أحمر، ولشكرته شكراً طيباً مباركاً فيه.
كففت عن قراءة الروايات العربية التي يكتبها معاصرون طمعاً في جوائز مغرية، ووجدت أني أهدر عمري في ما لا طائل من ورائه ولا من أمامه، ولم أجد فيهم واحداً يعتني بألفاظه انتخابا وسبكا، سوى الروائي سليم بركات. وهم يكثرون من عبارات مترجمة مثل: "بالرغم من أني لم أكن أحبها مارست معها الجنس"، و"سيكون لها تأثير عكسي"، و"بطة عرجاء"، و"زيارات مكوكية"، و"هناك عدد من القضايا"، و"احتل حبها مساحة كبيرة من قلبي"، و"بلغ في قلبي حجم الكراهية كذا"، و"تم إجراء العملية بنجاح". وقد شاعت الصور ورموز الإيموجي كما قبل اختراع الكتابة، وبعض الصحف بدأت تستخدم سكاكين القصابين في ذبح الأسماء فتكتب هكذا: إيها القارئ/ة إسوة بالمخطابات الغربية الغازية. وما زالوا - لله درهم -يقدمون الذكر على الأنثى لأنه يصعب تقديم الأنثى على الذكر في
اللغة.
ووجدت الألمان يغارون على لغتهم أشد الغيرة، ولم تكن معلمتنا وهي من عهد هتلر؛ تبيح استخدام أي كلمة من لغة أخرى في درس تعليم الألمانية، كأن الدرس صلاة، وستبطل بنطق كلمة غير ألمانية. وكانت تستعين بالرسوم على شرح معاني الكلمات الألمانية، وهي سيئة الرسم. ومعلمو الألمانية يغضبون إذا ما ذكّرت المؤنث وأنّثت المذكر، وفي لغتهم جنس ثالث هو المخنث أو المحايد، فالأجناس عندهم ثلاثة. وقلت بلغتي الألمانية الركيكة للمعلمة الألمانية: عجبت من أمركم يا معشر الجرمان، تغضبون للخلط بين الذكور والإناث وتبيحون في القوانين تحويل الجنس، فتخصون الذكور وتسترجلون النساء، وعلمت أني بسؤالي قد جئت شيئاً إدّا.
وأصدر ناقد تونسي بياناً قال فيه متوعدا: إن أي رواية ليس فيها جنس رواية ساقطة. وقرأت أنَّ للجماع في العربية أربعمائة فعل، وإن السيوطي جمع له ألف فعل. وسألني شاب عن سبب غضبي من تعبير "ممارسة الحب" الكولونيالي الوافد، فقلت: إنه تعبير مركّب وصناعي ومستورد، وإنهم يجعلونه مهنة وحرفة وصنعة. فقال لي الشاب: احمد ربك لأنه ما زال مع الإناث.
كان صديق لي يسمي جماعة مجلة شعر وأتباعهم "الزبانية"، وكان محارباً بشدة في مهرجانات الشعر الجامعية ويعامَل كالأجرب لأنه يكتب شعراً عمودياً، فالعمودي برأيهم شعر مديح للسلطان.. ولم يمدح أحداً، بل كان معارضاً، وفي الشعر أغراض كثيرة، وكان الذين يكتبون الشعر الأفقي الذي أطلقوا عليه اسم الحر؛ من فلول النظام الأميين الذين تقتصر آدابهم على الصحافة اليومية، ويطففون في الميزان، وكان لهم غرض واحد في شعرهم الطلاسم: هو الوحشة من فراق الحبيب، والسير بجانب الكاتدرائية يوم الأحد في بلاد ليس فيها كاتدرائية ولا تعطل يوم الأحد.
twitter.com/OmarImaromar