لم يكن الدكتور محمد منصف المرزوقي وليد ربيع
تونس، الذي
كان باكورة ربيع العرب، لقد كان بحق أحد فواعل هذ الربيع بوقوفه ضد
الاستبداد
مبكراً، بل وجزءاً من ضحاياه لعقود بتشكيله ودعمه لمنظمات حقوقية وإنسانية، أو
باضطهاده ذاته، وحتى سجنه. كان حارساً أميناً لرصد انتهاكات الاستبداد ضد
المظلومين، فمثّل بذلك نخلة ثابتة ضد الاستبداد التونسي، منذ المستبد الأول فيها
الحبيب بورقيبة إلى رجل مخابراتها زين العابدين الذي ترقى إلى منصب رئيس لاحقاً،
ليزيح سيده بورقيبة.
وحين أصدر المرزوقي كتابه "دع وطني يستيقظ"
أيام حكم بورقيبه، لوحق وحوكم وسجن، لكن ما جمع بورقيبه وزين العابدين وقيس سعيّد
هو الاستبداد نفسه، لكن ما يميز المستبدّين الأولين هو امتلاكهما لمخابرات وجيش،
أما المستبد الجديد فيفتقر إليهما كليهما. أما المرزوقي فقد تميز عنهما، بالانتصاف
للمظلومين والوقوف بوجه الظالمين. وكتأكيد على حقيقة وجود الحبل السُرّي بين أقطاب
الاستبداد فقد احتفل
قيس سعيد على طريقته بالذكرى السنوية لانقلاب زين العابدين على
بورقيبة، ليؤكد علناً علاقته وحنينه لعهود الاستبداد، وانشقاقه عن كل ما له علاقة
بربيع تونس، فضلاً عن ربيع العرب.
احتفل قيس سعيد على طريقته بالذكرى السنوية لانقلاب زين العابدين على بورقيبة، ليؤكد علناً علاقته وحنينه لعهود الاستبداد، وانشقاقه عن كل ما له علاقة بربيع تونس، فضلاً عن ربيع العرب
عام 2019 انسحب المرزوقي من المشهد السياسي بعد
ولايته
الرئاسية الأولى، حين رأى أن حظوظه بالفوز بولاية ثانية معدومة، لا سيما بعد دعم
حركة النهضة التونسية للباجي السبسي، رمز الفساد ورمز العهد السابق، مما مهّد
لاحقاً لسرقة الربيع العربي التونسي، وتحجيم - ليس فقط - رموز أحرار تونس، بل لوحق
حتى من وقف معه خلال الانتخابات، وخصوصا حركة النهضة التونسية التي كانت ضحية من
ضحايا عهد
الثورة المضادة، هذه الثورة التي تمكنت من ترسيخ أقدامها في الحكم؛ الذي
كان الربيع التونسي قد زلزل الأرض من تحت أقدامها.
قد تتفق مع السيد المرزوقي أو تختلف، لكن ما عليك إلاّ
احترامه وتقديره. أتذكره في آخر مناسبة لي معه حين دعوته إلى صالون منزلي الشهري
عبر الزووم، إذ لم يكن حضوره فيزيائياً ممكناً بسبب جائحة كورونا، يومها قال
للحضور علينا جميعاً الاستعداد لموجة معادية للربيع العربي بالردّ على الشبهات،
وحرمان أعداء هذا الربيع من تجريمه، فضلاً عن تحميله مسؤولية ما جرّه الاستبداد وما
خلفه الاحتلال الداعم له في المنطقة العربية.
لم أكن أظن أن الدكتور منصف قصد نفسه من وراء ذلك، حتى
أتانا خلَفه، فكان شر خلف لأفضل سلف وهو المرزوقي، فالوردة قد تنبت معها الشوكة.
فانقلبت شوكة سعيّد على أول دستور عربي كتب بأيدي أحرار تونس وبمشاركة المرزوقي
نفسه، ولم يكتف قيس سعيد بذلك
فلاحق الحرّ المرزوقي بمذكرة أصدرها للإنتربول
الدولي للقبض عليه، وسحب جوازه الديبلوماسي. ولكن كعادة المرزوقي، سخر من المذكرة
وصاحبها كما سخر من قبل من عتاة الاستبداد العربي التونسي، فكان لهم بالمرصاد
يطاردهم ويفك أحاجيّهم وسحرهم ولا يزال، بعد أن طار صواب سعيّد بنجاح المرزوقي
بتأجيل مؤتمر الفرانكفونية، فقد كان سعيد يطمح من خلال المؤتمر لإضفاء شرعية على
انقلابه المشين.
ستبقى أياديه بيضاء ليس على الربيع العربي فقط، وإنما في كل منطقة تتعرض للظلم والاضطهاد مدافعاً ومنافحاً عنها
رأينا حجم التعاطف العربي مع المرزوقي، إذ وقعت أكثر من
ستين شخصية تونسية حقوقية وسياسية عريضة تدين ما تعرض له، وتطالب بوقف حالة
التحريض على المعارضة، كما انتفض أولياء دم الربيع العربي من الماء إلى الماء
يدافعون، ويذبّون عنه، عبر منصات السوشيال ميديا. فلن تنسى جغرافية الربيع العربي
وقوف المرزوقي بجانبها إن كان في مصر، يوم وقف مع الشهيد محمد مرسي وأسس جمعية
للدفاع عنه، أو في سوريا يوم وقف مع ثورتها، فطرد منذ اللحظة الأولى سفير العصابة
الطائفية وسمح لتونس بأن تحتض مكاتب ومؤتمرات المجلس الوطني السوري الثوري، وستبقى
أياديه بيضاء ليس على الربيع العربي فقط، وإنما في كل منطقة تتعرض للظلم والاضطهاد
مدافعاً ومنافحاً عنها.
صدق من قال: لكلٍ من اسمه نصيب، وللمنصف المرزوقي من
اسمه نصيب، فبقدر ما كان منصفاً وعادلاً ونزيهاً في الحكم وقبله وبعده، فقد كان
مرزوقاً بالتعاطف معه شعبياً، وقلّما من يخرج من السلطة فتكون محبته بنفس القدر
الذي دخل بها، لكن المرزوقي حقيقة وواقعاً وفعلاً كانت محبته بعد خروجه من السلطة
أضعاف ما دخل بها، مما يؤكد من جديد المؤكد بأنه دخلها خادماً لشعبه، وموظفاً
لديه، وليس حاكماً مستبداً كما اعتادت الشعوب العربية أن تُحكم لعقود، فكسب حبها
وتأييدها ولا يزال.