كتاب عربي 21

التغييريون العرب والديمقراطية: أُكلتُ يوم أُكلَ الثورُ الأبيض

قاسم قصير
1300x600
1300x600
شكّلت الديمقراطية وتداول السلطة أحد أهم المطالب التي يطرحها ويطالب بها التغييريون العرب، سواء كان هؤلاء يساريين أو قوميين أو ليبراليين أو ناصريين أو إسلاميين. فمعظم الحركات التغييرية التي نشأت في العالم العربي منذ بداية تشكل الدولة القطرية أو القومية منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم؛ كان مطلب الديمقراطية وتدوال السلطة أحد أهم مطالبها.

طبعا لكل حركة تغييرية مطالب خاصة بها، سواء الدعوة للوحدة العربية أو الدعوة للوحدة الإسلامية أو الخلافة الإسلامية أو التحرر من الاستعمار أو مواجهة الاحتلال الصهيوني أو الاشتراكية أو غير ذلك من المطالب، لكن مطلب الديمقراطية وتداول السلطة كان أحد أهم المطالب التي يجمع عليها معظم هذه الحركات، باستثناء عدد قليل منها من منظمات يسارية متطرفة كانت تتبنى شعار العنف الثوري والتغيير الشامل أو تطبيق الشيوعية بأشكالها المتعددة، أو بعض الأحزاب والتيارات الإسلامية التي كانت ترفض الديمقراطية بشكل مطلق، كحزب التحرير الإسلامي أو بعض التيارات السلفية المتشددة أو الجهادية، وإن كانت بعض التيارات الإسلامية السلفية عادت وتبنت الديمقراطية وشاركت في الانتخابات في بعض الدول العربية، في حين أن معظم الأحزاب الإسلامية، سواء كانت في البيئة السنية أو الشيعية، تبنت الديمقراطية بشكل عام وشاركت في الانتخابات، وإن كانت تبدي ملاحظات تفصيلية حول مسألة الأحوال الشخصية أو مرجعية التشريع، وتدعو للعودة إلى المرجعية الإسلامية للتشريع.
معظم الأحزاب الإسلامية، سواء كانت في البيئة السنية أو الشيعية، تبنت الديمقراطية بشكل عام وشاركت في الانتخابات، وإن كانت تبدي ملاحظات تفصيلية حول مسألة الأحوال الشخصية أو مرجعية التشريع، وتدعو للعودة إلى المرجعية الإسلامية للتشريع

إذن، يمكن القول إن مطلب الديمقراطية كان أحد أهم مطالب التغييريين العرب في العقود الأخيرة، وكان هذا المطلب من أهم شعارات الربيع العربي. ومعظم التحركات الشعبية في العالم العربي كانت ترفع شعار تطبيق الديمقراطية وتداول السلطة وحماية حقوق الإنسان والحريات العامة، إضافة لمواجهة الفساد والمطالبة بالتنمية وتأمين العمل والحياة الكريمة، وخصوصا لدى الشباب العاطل عن العمل.

وفي المشروع النهضوي العربي الذي أعده مركز دراسات الوحدة العربية وتبناه المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي- الإسلامي ومؤتمر الأحزاب العربية، كان شعار الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان أحد أهم المطالب. وقد عمدت الكثير من الأحزاب الإسلامية إلى تقديم رؤى جديدة حول الديمقراطية وعدم تناقضها مع الفكر الإسلامي، ونشرت عشرات الكتب وآلاف الأبحاث حول الإسلام والديمقراطية. ونشأ في تونس مركز متخصص حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، وقد ترأسه الدكتور رضوان المصمودي وهو يتابع عمله حتى الآن.

وأما القوميون واليساريون وما بقي من الناصريين، وطبعا الليبراليون، فإنهم كانوا يعتبرون تطبيق الديمقراطية وتداول السلطة أحد أهم مطالبهم، وتشكلت جبهات وحركات ومنظمات عربية متنوعة للمطالبة بالديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان طيلة العقود الخمسة السابقة.
مشكلة كل هؤلاء التغييريين العرب أنهم يطالبون بالديمقراطية فقط كي يصلوا إلى السلطة، وإذا وصلوا إلى السلطة فإنهم يتخلون عنها، وإذا وصل غيرهم إلى السلطة ولو عبر الانتخابات، كما جرى في الجزائر وفلسطين ومصر وتونس وغيرها، فإن الديمقراطية تصبح مرفوضة ويتم اللجوء إلى الانقلاب العسكري أو للتحركات الشعبية أو للعقوبات لمحاصرة القوى التي تصل إلى السلطة

لكن مشكلة كل هؤلاء التغييريين العرب أنهم يطالبون بالديمقراطية فقط كي يصلوا إلى السلطة، وإذا وصلوا إلى السلطة فإنهم يتخلون عنها، وإذا وصل غيرهم إلى السلطة ولو عبر الانتخابات، كما جرى في الجزائر وفلسطين ومصر وتونس وغيرها، فإن الديمقراطية تصبح مرفوضة ويتم اللجوء إلى الانقلاب العسكري أو للتحركات الشعبية أو للعقوبات لمحاصرة القوى التي تصل إلى السلطة ولتغيير نتائج الانتخابات. وطبعا فإنه بعد وصول بعض الحركات الإسلامية إلى السلطة قد ترتكب بعض الأخطاء ولا تحسن إدارة السلطة أحيانا، لكن ذلك لا يبرر اللجوء إلى العسكر أو للقيام بإجراءات للانقلاب على نتائج الانتخابات أو رفض تطبيق الديمقراطية.

وما يجري اليوم في السودان، وما جرى مؤخرا في تونس، وما جرى سابقا في مصر، يقدّم لنا دليلا واضحا حول سرعة الانقلاب على الديمقراطية أو الاستعداد للقبول بخيارات عسكرية أو انقلابية لتغيير السلطة أو الاستيلاء عليها، فيقبل بعض التغييريين العرب، من قوميين ويساريين وليبراليين وديمقراطيين، بحصول انقلاب عسكري أو إجراءات تتناقض مع الديمقراطية لإقصاء طرف إسلامي أو جهات يختلفون معها، ولكن لاحقا يدفع كل هؤلاء ثمن هذه الانقلابات ويتم الانقلاب عليهم مجددا ويوضعون في السجون، وتتم محاكمتهم وإقصاؤهم عن السلطة أيضا، فينطبق عليهم المثل الشهير: أُكلتُ يوم أُكلَ الثورُ الأبيض.

إن خيار الديمقراطية لا يمكن أن يكون خيارا جزئيا أو مؤقتا، أقبل به إذا كان يوصلني إلى السلطة، وأرفضه وأعود عنه من أجل التخلص ممن أختلف معهم في السلطة. والديمقراطية ليست صيغة نهائية ومقفلة وجامدة لإدارة الحكم والمجتمع، بل هي صيغة متطورة ومتغيرة حسب طبيعة كل مجتمع، والأهم تطبيق بنودها الأساسية من خلال التدوال في السلطة وحماية الحقوق الأساسية وحق المراقبة والمحاسبة وفصل السلطات، واحترام التنوع والحفاظ على حقوق الأقليات وتمكين وصول الفئات المهمشة، وهي مرتبطة أيضا بتحقيق التنمية ورفع مستوى التعليم ونشر العلم والثقافة والمعرفة والوعي السياسي ومواجهة العصبيات، ومنع تحكم أصحاب رؤوس الأموال بالسلطة. وهناك قواعد عديدة تحكم آليات تطبيق الديمقراطية، ولكل بلد خصوصياته، كما أنه يمكن تطوير صيغة الحكم في كل بلد من خلال التجارب وتداول السلطة.
القاعدة الأساس في كل ذلك أن نخضع جميعا لخيار الديمقراطية، وأن نقبل بما يريده الناس والشعب، وأن نترك الحكم للشعب ونخضع لما يريده وفق آليات محددة، سواء كانت انتخابات مباشرة أو اللجوء للاستفتاء أو أية صيغة تمثل تطويرا للتمثيل الشعبي

لكن القاعدة الأساس في كل ذلك أن نخضع جميعا لخيار الديمقراطية، وأن نقبل بما يريده الناس والشعب، وأن نترك الحكم للشعب ونخضع لما يريده وفق آليات محددة، سواء كانت انتخابات مباشرة أو اللجوء للاستفتاء أو أية صيغة تمثل تطويرا للتمثيل الشعبي.

والأهم في كل ذلك أن أحترم حق الآخرين في الديمقراطية، لا أن أقبل بحصول انقلاب عسكري للإطاحة بجماعة سياسية معينة من أجل السيطرة على الحكم في حال كنت مختلفا معهم، لأنه بعد ذلك تأتي جماعة أخرى وتنقلب عليّ ويحصل معي ما حصل مع الآخرين، وينطبق علينا مجددا المثل: أُكلتُ يوم أُكلَ الثورُ الأبيض.

فلكي لا نؤكل يوم أُكل الثور الأبيض، ولكي لا نخسر ما نسعى إليه جميعا من قيام مجتمعات متطورة وديمقراطية ونامية، وكي نشارك جميعا في إدارة بلادنا ونتعاون من أجل تطويرها، بدل اللجوء إلى الانقلابات العسكرية أو الانقلابات الدستورية أو العقوبات أو غير ذلك من أشكال الضغوط، فإن علينا جميعا أن نؤمن حقا بالديمقراطية ونتائجها حتى لو كانت ليست لصالحنا أحيانا، وبذلك نكون حقا ديمقراطيين وتغييريين ونريد مصلحة بلادنا؛ لا مصلحة جهة أو جماعة أو طرف معين.

twitter.com/KassirKassem
التعليقات (0)