تعددت طعنات
فرنسا للولايات المتحدة أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة؛ إذ عقدت اتفاقات لاستيراد الغاز الروسي عبر صربيا وشرق أوروبا، وسبقتها بذلك ألمانيا عبر مشروع سيل الغاز الشمالي، مفضلة النفط والغاز الروسي على الأمريكي بحجة انخفاض الكلفة؛ فلماذا تعترض فرنسا على تحالف إيكوس الأمريكي البريطاني الأسترالي؟ ولماذا استاءت من صفقة الغوصات الأمريكية لأستراليا؟
للوهلة الأولى ستبدو هذه المقدمة كأنها دفاع عن أحد أطراف المواجهة؛ إلا أنها في الحقيقة محاولة لتسليط الضوء على حقائق طالما تم تجاهلها حول التنافس والفجوة المتسعة بين الولايات المتحدة الأمريكي وشركائها الأوروبيين خصوصا فرنسا، فجوة تم التعبير عنها أكثر من مرة خلال السنوات الطويلة من التحالف بين الدولتين؛ إلا أنها في السنوات الأخيرة باتت أكثر وضوحا.
فالمؤشرات على الفجوة السياسية بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية قديمة قدم العلاقة التي تجمع الدولتين؛ إذ لم يغب عنها في مراحلها ومحطاتها المختلفة التباينُ الثقافي بين الفرنكفونية والأنجلوسكسونية، حتى في ذروة الثورة الأمريكية على الحكم البريطاني في العام 1775؛ إذ لطالما أدى البعد الثقافي دورا في رسم حدود العلاقة الأمريكية الفرنسية وضيق أفقها.
فرنسا الديغولية في الستينيات من القرن الماضي، لم يمنعها انتماؤها لحلف
الناتو من تأكيد حضورها واستقلالها في الساحة الدولية؛ فانفتحت على الصين في وقت مبكر، ووضعت بينها وبين القيادة العسكرية لحلف الناتو مسافة تسمح لها بالمناورة والحركة بعيدا عن الحلف باتجاه روسيا.
لم تكن فرنسا متماهية يوما مع حليفها الأمريكي كحال بريطاينا، الأمر الذي أسهم في بلورة السوق الأوروبية المشتركة التي تحولت إلى اتحاد أوروبي يطمح لسياسية خارجية موحدة وقوة عسكرية مشتركة؛ فلماذ استاءت فرنسا من التحالف الأمريكي الأسترالي البريطاني الجديد
لم تكن فرنسا متماهية يوما مع حليفها الأمريكي كحال بريطاينا، الأمر الذي أسهم في بلورة السوق الأوروبية المشتركة التي تحولت إلى اتحاد أوروبي، يطمح لسياسية خارجية موحدة وقوة عسكرية مشتركة؛ فلماذ استاءت فرنسا من التحالف الأمريكي الأسترالي البريطاني الجديد، في حين أنها لم تكن يوما مخلصة لتحالفها مع أمريكيا وشركائها الإنجلوسكسون؟
المخاوف الفرنسية التي عبر عنها بعد تولي دونالد ترامب الرئاسة في أمريكا العام 2016؛ تحولت إلى فرص وظفتها باريس لخدمة مشروعها السياسي في الاتحاد الأوروبي. فالانسحاب من اتفاقية المناخ ومن ثم من الاتفاق النووي الإيراني؛ قدم لفرنسا فرصة ذهبية للقيادة والزعامة بعيدا عن ترامب وتقلباته؛ زعامة اتسمت بالتخبط والفشل الذي بدا واضحا في أفريقيا.
النزعة للتفرد وفرض الأجندة السياسية كانت واضحة في الأزمة الليبية؛ ففي الوقت الذي قدمت فيه أمريكا دعما عسكريا وجويا لحكومة الوفاق في طرابلس للقضاء على تنظيم داعش في مدينة "سرت"، كانت فرنسا منشغلة في توثيق أواصر علاقتها بالجنرال خليفة حفتر في بنغازي وحلفائه في أبو ظبي والقاهرة.
الأجندة الفرنسية كانت تسير بالاتجاه المغاير للأجندة الأمريكية والبريطانية في ليبيا، لتنتهي بفشل تم التعبير عنه بتعزيز نفوذ روسيا وشركة فاغنر؛ لا في الشرق الليبي بل وفي مالي وأفريقيا الوسطى، دافعا أمريكا لوقف دعمها الاستخباري والعسكري لعملية برخان الفرنسية في مالي ومنطقة الساحل والصحراء.
ذهب المسؤولون الفرنسيون لأبعد من ذلك بالقول؛ إن الناتو أسس للدفاع عن أوروبا وليس لمواجهة الصين في الباسفيك والمحيط الهندي؛ خطاب فرنسي قديم قوبل بتفهم أمريكي وارتياح روسي وصيني
اتفاق إيكوس لم يكن طعنة في الظهر بهذا المعنى، بل هو امتداد لسياسة كانت قائمة على الأرض منذ سنوات في أفريقيا وغرب آسيا. ففرنسا قبل أيام من الإعلان الأمريكي البريطاني الأسترالي عن صفقة الغواصات، كانت قد عقدت صفقة مع طهران فتحت الباب لتشكيل حكومة نجيب ميقاتي، وسهلت تدفق النفط الإيراني إلى لبنان، مستبقة الجهود الأمريكية لتوريد الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان.
فرنسا حولت مشاركتها في قمة بغداد في 28 آب/ أغسطس إلى اختراق سياسي تجاوز تمثيل الناتو والقوى الغربية؛ إلى مصلحة فرنسية مباشرة لا تراعي المصالح الأمريكية أو تأخذها بعين الاعتبار.
ختاما.. اتفاق إيكوس (الأمريكي البريطاني الأسترالي)، تحول إلى مناسبة لتأكيد تبلور النظام الدولي متعدد الأقطاب؛ فوزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان خلال الاجتماع الـ76 للجمعية العامة للأمم المتحدة، أكد أن فرنسا تدافع عن نظام متعدد يضم الصين وروسيا وأوروبا وأمريكا. وذهب المسؤولون الفرنسيون لأبعد من ذلك بالقول؛ إن الناتو أسس للدفاع عن أوروبا وليس لمواجهة الصين في الباسفيك والمحيط الهندي؛ خطاب فرنسي قديم قوبل بتفهم أمريكي وارتياح روسي وصيني.
twitter.com/hma36