كتاب عربي 21

أفغانستان: ما الذي جرى.. وقد يجري؟

ساري عرابي
1300x600
1300x600
قاطع الأفغان آخر انتخابات أعلَن فيها محمد أشرف غني نفسه فائزا. ففي انتخابات وُصِفت بالمهندَسة والمزوَّرة، (وأجريت في 2019 بعد تأجيلها مرات عديدة، وتأجيل الإعلان عن نتائجها)، حاز محمد أشرف غني على ما يزيد بقليل على 900 ألف صوت، من أصل 1.8 مليون صوت محتسب، في بلد تعداده 40 مليونا، وهو الأمر الذي يعني أن المجموعة التي كانت تمسك بالحكم في أفغانستان، قبل انهيارها، هي مجموعة ضيقة، صغيرة العدد، لا تحظى بالغطاء الشعبي، وترتكز إلى الحماية الغربية وترتيبات شبكة من المصالح والزبائنية.

اتُّهم "غني" من منافسيه وشركائه في العملية السياسية، بتزوير الانتخابات، ومن خصومه، بخرق الدستور، الذي يستند إليه في دعايته وتسويق نفسه في الأوساط الغربية، وبنقض أكثر تفاهماته مع الحزب الإسلامي، بقيادة قلب الدين حكمتيار، وهو الأمر الذي تنبّهت له "طالبان" جيدا، وبناء عليه أدارت مفاوضاتها مع حكومة "غني"، فلم تكن مفاوضات "غني" جادة، وإنما كان يريد البقاء على رأس السلطة، بفرض الاستسلام على "طالبان" بعملية من الاحتواء المتدرج المتذاكي، وبالاعتماد على الحماية الأمريكية، وشلّ الضغوط السياسية والاجتماعية التي تسعى لمفاوضات جادة، إلى درجة تصفية بعض الوسطاء.

ولم يتنبه "غني" بدوره إلى التحولات الناشئة عن اتفاقية الانسحاب التي أبرمتها الولايات المتحدة مع "طالبان"، بعد محادثات الدوحة، والتي استُثني منها "غني" فعليّا، والذي لم يتصوّر أن هذه المفاوضات ستُفضي إلى انسحاب أمريكي حقيقي، لظنّه بأنّها خطوة محورها الأمريكي/ الأفغاني، زلماي خليل زاده، ومن ثم فإنّ لديه (أي أشرف غني) إمكانية لتغيير توجهات إدارة بايدن، بيد أنّ ظنونه هذه لم تكن أكثر من أوهام.
لم يتنبه "غني" بدوره إلى التحولات الناشئة عن اتفاقية الانسحاب التي أبرمتها الولايات المتحدة مع "طالبان"، بعد محادثات الدوحة، والتي استُثني منها "غني" فعليّا، والذي لم يتصوّر أن هذه المفاوضات ستُفضي إلى انسحاب أمريكي حقيقي

ظلت سياسات "غني" تتسم بالمناورة والمخاتلة، بحسب التطورات العسكرية على الأرض، فكان يدعو "طالبان" للاستسلام كلما حققت قواته مكاسب عسكرية، بينما يعود للحديث عن المفاوضات، وعملية السلام، وإمكانية تنازله عن السلطة وقبوله الإدارة المؤقتة، كلما حققت "طالبان" المكاسب، أو تزايدت عليه الضغوط للانخراط في مفاوضت أكثر جدّية مع "طالبان"، دون أن يقدم إجراء واحدا يُثبت مصداقيته في ذلك. وفي كل الأحوال، لم تكن المصالحة تعني عنده سوى البقاء في السلطة مع إمكانية انضمام "طالبان" إليها، وهو ما كانت تراه الأخيرة خديعة لفرض الاستسلام عليها، في حين أنها لم تستسلم لحُماة "غني" فكيف تستسلم له هو؟

لهذه الأسباب ظلّ وفد الحكومة الأفغانية للمفاوضات، في الدوحة، بلا صلاحيات، فلم يُظهر أشرف غني نوايا جادة للمصالحة، وعزّز هذه التوجهات بعض المحيطين به، ممن يرون أنه لا يمكنهم إنجاز مصالحة مع "طالبان" قبل فرض الهزيمة العسكرية عليها، بالاعتماد على القوات الجوية والدعم الجوي الأمريكي، لكن هؤلاء لم يأخذوا بعين الاعتبار جدّية الانسحاب الأمريكي، وانهيار معنويات مقاتلي حكومة كابول، وشرطتها وأجهزتها الأمنية، وافتقاد الحكومة أصلا للشرعية الشعبية، وعزوف الناس عن مساعدتها، لا سيما مع اتهامات الفساد الهائلة التي توجه لأشرف غني شخصيّا، وزوجته اللبنانية "رولا سعادة"، وإخوتها وشركتهم، فضلا عن موظفي إداراته الحكومية، فتوقع إمكانية هزيمة "طالبان" بعد ذلك هو ضرب من التفكير الرغبوي، والتمسك المرضي بالمصالح القائمة على منظومة الفساد.

هذا في التحليل المباشر لمجريات الأحداث، والتي سبقها من قبل إدراك الإدارات الأمريكية المتعاقبة وأجهزتها استحالة هزيمة حركة مسلحة، تعتصم ببيئة طوبوغرافية مناسبة لحروب العصابات، وتتمتع بحواضن شعبية قَبَلِية ودينية، وتجد داعمين إقليميين يمكنهم بها النكاية بالولايات المتحدة، وقبل ذلك، تتسم بعناد استراتيجي، يقوم على فكرة القيام بالواجب وجهاد المستعمر الأجنبي حتى آخر نفس.

وفي مقابل هذا الواقع العسكري، فإنّ الولايات المتحدة تستنزفها المعركة يوميّا، بشريّا واقتصاديّا، بلا أفق استراتيجي، مما يجعل انسحابها، في إطار تفاهم مع "طالبان"، هو النتيجة الحتمية. فالتفسير التآمري لانتصارات "طالبان" هو ضرب من الخيال الأيديولوجي المريض، والفقير من المعرفة الواقعية بمسار الأحداث وتعقيداته والفاعلين فيه.
لم يكن دخول "طالبان" كابول، في 15 آب/ أغسطس 2021، ناجما عن تفاهم مع الولايات المتحدة، ولكنه كان ناجما عن قتالها الطويل والمرير، وصبرها الاستراتيجي الحقيقي، وفساد حكومة كابول وضعفها، وأخيرا انسحاب الولايات المتحدة

لم يكن دخول "طالبان" كابول، في 15 آب/ أغسطس 2021، ناجما عن تفاهم مع الولايات المتحدة، ولكنه كان ناجما عن قتالها الطويل والمرير، وصبرها الاستراتيجي الحقيقي، وفساد حكومة كابول وضعفها، وأخيرا انسحاب الولايات المتحدة، بيد أن اتفاقية الانسحاب نفسها منفصلة تماما عن دخول كابول، وتتابع انتصارات "طالبان".

عقيدة القيام بالواجب، والصبر الاستراتيجي، درس ملهم في تجربة "طالبان" هذه. هذا الدرس، بالإضافة إلى الصلابة الاستثنائية التي أبدتها الحركة في قتالها الطويل، وهزيمتها لقوّة إمبريالية أسطورية غير مسبوقة القوّة في التاريخ الإنساني، يدفع الكثيرين للابتهاج بإنجازها، والذي عززته، بالتأكيد، عوامل موضوعية أخرى أحسنت الحركة استثمارها.
لا بد من التأكيد على أنّ الحركة، في معتقداتها وأفكارها وتصوراتها، انبثاق طبيعي عن بيئتها الأفغانية، ونقدها من هذه الحيثية، دون إدراك ذلك، هو أيضا ضرب من الجهل أو التعالي الزائف

وبقدر ما ينبغي نفي نظرية المؤامرة في الصعود العسكري للحركة وانهيار حكومة أشرف غني، بما يستتبعه من نفي عمالة الحركة لقوى إقليمية كما يعتقد البعض، وهو نفي لا يستدعي بدوره نفي تلاقي المصالح الطبيعي في هذا النوع من الصراعات، فإنه لا بد من التأكيد على أنّ الحركة، في معتقداتها وأفكارها وتصوراتها، انبثاق طبيعي عن بيئتها الأفغانية، ونقدها من هذه الحيثية، دون إدراك ذلك، هو أيضا ضرب من الجهل أو التعالي الزائف.

ما الذي سيجري بعد ذلك؟

تسريح الحركة لموظفي حكومة أشرف غني، المدنيين والعسكريين والأمنيين، يعني أن الحركة تعمل على تفكيك النظام السابق، وإحلال منتسبين لها مكانهم، وهو أمر يمكن فهمه في سياق الإنجاز العسكري للحركة، على ألا يتحوّل ذلك إلى عملية إقصاء مبرمج للتنوعات العرقية والطائفية في أفغانستان. وعلى أية حال، يمثل ذلك تحدّيا من جهة القدرة على إدارة أفغانستان بما تستلزمه من أجهزة وإدرات تكافئ مساحتها وعدد سكانها، ومن جهة أخرى منع الفوضى، والتواصل الإيجابي مع بقية الشرائح الاجتماعية، واستيعابها في نموذج الحكم الذي تسعى إليه الحركة، وإلا فإنّ الحرب الأهلية ستبقى تخيّم في سماء أفغانستان.
غير متوقع من الحركة أن تتبنى الرؤى السياسية والأفكار الاجتماعية والآراء الدينية التي باتت تسود في أوساط ما يُعرف بالإسلام السياسي، فالمرجعية الدينية للحركة، التي تلتزم التزاما حرفيّا بمقررات الدرس الفقهي الحنفي الديبوندي، لن تبتعد كثيرا في تجلياتها في الإدارة والحكم والتشريع عن تجربة الحركة السابقة

غير متوقع من الحركة أن تتبنى الرؤى السياسية والأفكار الاجتماعية والآراء الدينية التي باتت تسود في أوساط ما يُعرف بالإسلام السياسي، فالمرجعية الدينية للحركة، التي تلتزم التزاما حرفيّا بمقررات الدرس الفقهي الحنفي الديبوندي، لن تبتعد كثيرا في تجلياتها في الإدارة والحكم والتشريع عن تجربة الحركة السابقة التي توجت بدخول كابول (1996) ومزار الشريف (1997)، قبل انهيارها بعيد الغزو الأمريكي عام 2001، لكن قد يكون الأهم بالنسبة لعموم الأفغان، قدرة الحركة على استيعاب التنوع العرقي، والإدارة المثلى للنظام السياسي الجديد، مع وجود احتمالات الحصار، وربما تخلّي بعض الداعمين الإقليميين عنها، بعد أن تلاقت مصالحهم معها إبان قتالها للأمريكان، وهو أمر قابل للاختلاف الآن.

تبقى "طالبان" نموذجا مهما في الاستقلال السياسي الوطني، غير المنفصل عن عقيدتها السياسية، التي مثلت عامل دفع واستمرارية طوال العشرين سنة الماضية.

twitter.com/sariorabi
التعليقات (0)