ورطة النظام السوري مع مدينة
درعا، مهد الثورة السورية، لا خلاف حول حجمها، وقد اختلف البعض في تقدير نتائج هذه الورطة وتقييم أسبابها، إلا أنه لا يمكن نفي وجود مغطس للنظام في دم كل السوريين.
وهي ليست المرة الأولى التي يحاول فيها النظام مع حليفيه الإيراني والروسي فرض سيطرة مطلقة على المدينة بعد "بروفة" التسويات التي ابتكرها العقل الروسي للنظام، كمقدمة لخداع معظم المناطق في
سوريا، والتي واجهت بدورها تدميرا وتحطيما وحصارا وتهجيرا، إذ لم يكن في وارد السوريين أن تكون المدينة "درعا غراد" وعنوانا لهزيمة عسكرية تنزل بدولة عظمى كروسيا.
فبعد سلسلة التسويات التي روج لها الروسي، والتي تخلل معظمها انتهاك فاضح من قبل النظام، انتهى الأمر بالانقلاب عليها وتشديد
الحصار على درعا البلد كمقدمة لاقتحام المدينة وفرض شروط مذلة ومهينة، وهي تعيد للأذهان بداية تعاطي عقلية النظام مع كرامة السوريين في درعا آذار 2011.
يحاول نظام بشار الأسد، كما في كل منطقة سيطر عليها بقوة التدمير، ضمان مقوماته، سواء ما يتعلق منها بمهماته الباطشة بالمجتمع السوري، أو على صعيد علاقته الأمنية والسياسية العربية الرسمية التي تعكس صورته، أو في ما يتعلق بمعاهداته العسكرية والاقتصادية مع قوى الاحتلالين الروسي والإيراني، كنتاج عمل مشترك بينهما وبين النظام. غير أن هذه الشراكة كانت واعية لمحدودية قدرتها على تنفيذ هدف نزع عداء السوريين للنظام الأسدي، وعدم القدرة على القفز عن مطالب حرية وكرامة السوريين.
وكان من الطبيعي الترويج مراراً للهدوء الظاهري والسيطرة و"الانتصار" بوصول قوات الأسد للحدود مع الجولان في العام 2018، لتأمين حدود المحتل، عندما عززت ذلك مطالبُ الوزير الروسي لافروف بأن "النظام وحده قادر على ضمان الأمن في الجنوب، وهو المخول بالقيام بهذه الخطوة، من خلال إعادة بسط السيطرة"، لتحقيق مردود يوازي حجم دور الأسد كأداة لضرب حركة وثورة الشعب السوري التي ستبقى النقيض التاريخي في حالة السيطرة الظاهرية لحكم النظام أو في حالة الثورة.
في درعا، أمثلة كثيرة عن استحالة تطويع وهزيمة إرادة السوريين، لكن يبقى السؤال عن الأهمية التي تبديها موسكو من خلال وكلائها عند النظام لفرض حالة استسلام كامل على الجنوب السوري، وفي درعا تحديداً كعنوان لدفن الثورة السورية.
ويعتقد الكثير من رجالات السياسة لدى الغرب والروس والإيرانيين، أن الثورة السورية قد أوشكت على نهايتها، وأن احتمالات "السيطرة" للنظام تبدو شبه مؤكدة، غير أن المواجهة المستمرة مع النظام رسخت بعض الحقائق والتي أهمها:
- أنه مع "أسطورة" القوة الروسية ومليشيا إيران وفيالق الأسد المستحدثة إيرانياً وروسياً، فشلت في القضاء على جذوة الثورة في درعا على الأقل في هذه المرحلة من مراحل تجريب الإبادة والحصار والتهديد بالتهجير لأهل المدينة لإحداث تغيير ديمغرافي.
- الرفض القاطع لأي مبادرة تحمل مشاريع التسليم الكامل بإجراءات وسياسات النظام المجربة في
المصالحات السابقة.
الاعتقاد بصحة هذه الحقائق وواقعيتها قاد الطرف الروسي المعني بالتفاوض في الجنوب السوري؛ إلى التوصل مع وجهاء المدينة لاتفاق مبدئي على تمديد التهدئة ووقف العمليات العسكرية، لكن السعي من أجل الاتفاق المذكور لا بد وأن يأخذ أموراً كثيرة أهمها: ماذا لو فشل، ولم يتم البت في أمر مطالب المحاصرين بانسحاب قوات النظام من قلب المدينة، دون الإعلان عن قبول أو رفض تلك الشروط خلال الأيام القادمة؟ وما هي الأدوار والمسؤوليات التي يجب أن تقوم بها أطراف المعارضة السورية والقوى الفاعلة عربياً ودولياً دون تكرار سيناريوهات الخذلان للسوريين؟
إن محاولة التعرف على مدى فاعلية تلك الجهود، وبالتالي مدى نجاحها في حماية المدنيين والمحاصرين في درعا، كلها جربت في مشوار البداية للثورة السورية في درعا. وإذا كان من غير الممكن ضمن معطيات الواقع السوري التوصل لآلية تضغط على النظام السوري وعلى حلفائه، فإن ملابسات "انتصارات" الأسد وما تبعها من تدمير وتهجير في بقية المدن السورية؛ تثبت عدم القدرة على فرض خاتمة ترسم ابتسامة بلهاء على وجه الأسد بعد استخدام كل الأوراق لحسم الصراع مع الشعب السوري.
وبرغم الاتجاه المنادي عربياً وأمريكياً باغتنام فرصة التطبيع مع الأسد، والتسامح مع جرائمه، فإن أي حل أو تسوية أو مصالحة تحاول إقناع السوريين بخطأ قناعتهم بحريتهم وكرامتهم ومواطنتهم المنشودة؛ لن يكتب لها سوى الفشل، لأسباب يعرفها السوريون وحدهم في درعا وحلب وإدلب والرقة والدير وداريا والغوطة وحماة، وكل قرية وزاوية شهدت على همجية النظام. وهم يحملون أقوى الأوراق في معركتهم ضد الأسد وسلالته وعصابته، ومن مصلحتهم الحفاظ على هذه الورقة كقوة حيوية متنامية لخاتمة قادمة لا محالة.
twitter.com/nizar_sahli