يروي المؤرخون المسلمون أنّ عمر بن الخطّاب كان خرج إلى الشام، فرأى معاوية في موكب يتلقّاه، ثمّ راح إليه في موكب.
فقال له عمر: "يا معاوية! تغدو في موكب، وتروح في مثله. ويبلغني أنّك تتصبّح في منزلك، وذوو الحاجات ببابك"، فقال:
- "يا أمير المؤمنين، العدوّ بها قريب، ولهم عيون وجواسيس فأردت أن يروا للإسلام عزّا". فقال عمر:
- "إنّ هذا لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب". فقال معاوية:
- "يا أمير المؤمنين مرني بما شئت أصر إليه". قال:
- "ويحك! ما ناظرتك في أمر أعتب عليك فيه، إلا تركتني لا أدري: آمرك، أم أنهاك. وعمر بن الخطاب هو الذي وصف معاوية بكسرى العرب".
لقد صارت مراسم القسم والتتويج والاستقبال والتنصيب والدفن شعائر عبادات وثنية، وقد رأينا في يومين متتابعين رئيسين عربيين كسرويين يخطبان شعبيهما، ليس لهما من مُلك كسرى شيء، لكن لهما من مراسمه وتشريفاته فوق ما كان لكسرى نفسه.
ورأينا السلحف بشار الأسد يفوز مرة رابعة بسباق الانتخابات الرئاسية على أرنبي بلاي بوي، وكان أقسم في المرة الأولى في مجلس الشعب أنه سيحافظ على الدستور ويرعى البرسيم ومصالح الشعب كاملة، بل أقسم أن يحافظ على الوحدة العربية التي نسيناها نسيّا. وكان قد اتحد مع الروس والفرس، واتخذهم بازين لصيده، فصادوه فيما تصيّدا، وجعل لغتهما لزاما في المناهج المدرسيّة، وخسر أرضاً وعرضاً، وخسر سلاحه الكيماوي الذي ادّخره للعدو الإسرائيلي، وخسر نصف الشعب غير المتجانس، أما نصفه الثاني المتجانس الذي لم ينزح، فصمد حتى يتمتع بخطب الرئيس وأيماناته الدستورية.
الرئيس العربي يعوِّض نقصان الشرعية بزيادة المراسيم وعدسات التصوير وأحسن التقاسيم، وبسط السُجد الحمراء حتى إنّ السيسي تعب من المشي إلى المجد فسار على السجادة الحمراء بالسيارة! فلعلهما يعبّدان الطرق السورية والمصرية إلى الآخرة بالبسط الحمراء الدامية. وسألت نفسي عن سبب حب الزعيم العربي لفرش طريقه بالبسط الحمراء، فلعل ذلك حتى لا يتوه عن طريق القصر.
عَظُم أمر الرئيسين المصري والسوري كثيراً بعد أن تغلبا على أعظم شعبين عربيين، فباتت الكاميرا تنتظرهما على مسافة من أبواب القصر عند ميعاد الخطبة، وتستقبلهما صفوف التشريف وفرق التطبيل، ثم يمشيان راجلين على سجادة حمراء طويلة حتى يوفرا الوقود على خزانة الشعب، وكلما كثرت الهزائم زادت الضرائب والمكوس والرسوم والمراسم.
وكانت المراسم قبل النصر العظيم على المؤامرات الكونية وحروب الكواكب، أن يخطب الرئيس السوري مجلس الشعب المصنوع على عينه، وفي مجلس الشعب أعضاء عظام أمثال عضو البرلمان قبنض (يعادل ليندسي غراهام في الكونغرس الأمريكي)، وخالد العبود (يعادل نانسي بيلوسي)، ونجدت أنزور (كوبولا سوريا)، لكنه برم من هؤلاء الأفاكين الذين ظهرت عوراتهم وخرج على النص والتقاليد، ونحا إلى الخطبة في المجتبين المختارين من نجوم الفن المزينين بالقلائد الجمهورية والأوسمة، أمثال الفنان دريد لحام بطل مسلسل الخربة، والفنانة المناضلة العابرة للطوائف منى واصف، والمطرب علي الديك الذي سنبلت وراءه الحاصودة، وجورج وسوف الذي يغني من بطنه من غير تحريك لشفتيه، وعرعور النظام الشيخ فرفور، أما الخطبة فهي خطبة كل دورة رئاسية، وقد سبَّ فيها الإخوان وأردوغان، وشمت بالأخير وبأمنيته في الصلاة في الأموي.. سيصلي الأسد هو وحده فيه، وقد يعتكف لله تعالى ويتبتل فيه.
عيّر الأسد أردوغان بجبنه عن مواجهة إسرائيل التي سيواجهها بشار الأسد وحده، لكن في الزمان والمكان المناسبين.
نزل الأسد من عربته الفاخرة، وقد انتظرته الكاميرا، فمشى وئيداً مترفقا في تيهه كأنه أسٍ يجس عليلاً، ثم بلغ القاعة التي أعدت بإتقان، وأحضرت نجاح العطار، وهي أبرز ضيف في مهرجان القسم. وسمعنا خطيباً مثل خطباء المباريات الرياضية يذكر اسمَي ضابطين، فعرفنا من اسميهما أنهما من الأقلية الحاكمة، فانبثقا من وراء الكواليس يحملان مصحفاً ودستوراً. والمصحف والدستور حسب الرسم والصورة متساويان في الشدّة، لكنهما مختلفان في الاتجاه. ثم قام "دويتو" الشرف بحركتي جودو وكاراتيه فأدارا المصحف والدستور دورة هيدروليكية كاملة، ووضعا الكتابين ليقسم عليهما الرئيس، ثم بدأت الخطبة التي نعرفها، والهتافات التي حفظناها، والتي سخر منها ذات يوم غوار الطوشة في تمثيلية بالأبيض والأسود، تخللتها هذه المرة لحظة درامية من الأفلام الهندية، فقد نهضت سيدة مجهولة من الصفوف الأولى يظنُّ أنها تؤدي دوراً حسب السكريبت، زعمت أنها معلمته، وأنها فخورة بتلميذها الشاطر الذي كبر، ونال العلا بعد أن سهر الليالي، وتولى رئاسة الجمهورية في ما يشبه المعجزة بعد أن فاز على أرنبين في السباق لانشغالهما بأكل الجزر.
مصر أمكر من سوريا في مهارة التصوير، وأبرع بحركات "الزووم" و"الكلوز" وطائرات التصوير المسيّرة، لكن السيسي "كلوز" أكثر، فالأسد علوي، وعقيدته تمنعه من الاقتراب الشديد من الشعب. وسبب براعة مصر أنها استوديو العرب، وقد تقهقرت الكاميرا المصرية من هجمة رئيسها عليها ففرت مذعورة، من مؤسس الجمهورية الجديدة.
وقد وضع مخرج فيلم الخطبة قطارا لكاميرا تصوير للسيسي، وليس لقطار التصوير حوادث سكة كالتي تنتاب قطارات الشعب، وصورته وهو يمشي ويكاد يهرول فامتنعت عيني من الغمض خوفا عليه من هبوب الريح.
السيسي والأسد كلاهما زعيمان فصيحان، كما سمعنا ووعينا، وفيلسوفان وطبيبان وقاضيان وأسدان على شعوبهما. وقد خطب الأسد ساعة كاملة من غير أن يسمعه الشعب ويراه، فلا كهرباء في البلاد، سيسمع الناس الخطبة محفوظة أثناء فيئهم من التقنين الكهربائي.
وكلاهما مولعان بالارتجال وإظهار بلاغتهما ويخرجان عن النص. وكان الخروج عن النص بطولة في المسارح العربية، وقد خرج السيسي عن النص وأراد أن يقول فكرة خطرت له وهو يخطب، لكن بلاش، ثم نوى قولها، ثم قال بلاش بلاش، ثم نظر ثم عبس ثم بسر، ثم قال قولته العجيبة بعد أن صفّر الجمهور الطيب وصفق: بلاش هري. والكلام للشعب وليس لأبيه أحمد الذي خرج السيسي يطمئنه على سد النهضة حتى إني أظن أحياناً أن السيسي إثيوبي يحكم مصر، فذهب قوله بلاش هري مثلاً وترنداً.
البرسيم من ثمار المراسيم:
- لا أظن أني أضفت شيئاً بوصف صور رأى القراء بعضها في نشرات الأخبار أو مواقع التواصل، فهي لا تستحق أن تُرى، إلا أنّ ثمة شيئاً وراء الأكمة. وقد خسر الشعبان السوري والمصري أرضاً ونوراً وماءً وسماء، وأدرك النظامان ضرورة تعويض الشعب المسكين ببعض الفرجة والمرح غير مشهد الرئيس وهو يمشي كأنما شُفي من إعاقة على السجاد الأحمر، وذلك بإمتاع الشعب برؤية رئيسه وقد تعلم المشي من غير عكاز أو عربة معوقين، وتجاوز مرحلة الحبو والفطام، وتخرُّ له الكاميرات ساجدينا.
- أفتى مشايخ النظام المصري بعد خسارة جزر الوطن وماء الوطن ونفط الوطن، بأنَّ الدين لله والجنّة للجميع. ليس من كفار في مصر أيها السادة، الجميع سيدخلون الجنة. أما البشرى الثانية فهي لا عذاب في القبر، العذاب هو في معتقلات أم الدنيا في الدنيا. عفا شيوخ السيسي عن المسلمين من عذاب القبر، كما أن هناك محاولات حثيثة وحرب استنزاف للآخرة لتحطيم خط صحيح البخاري، كما دمّر جيش السادات خط بارليف.
- إنّ المجاعة تضرب سوريا، وهي أقلّ منها في مصر، فكلا الشعبين يعيشان بالبطاقات التموينية، لكن والحق يقال: إنَّ المراسم والتشريفات على أتمّها، من غير خطأ أو نقصان، فلله الحمد والمنّة.
- إنَّ المراسم الرئاسية مقتبسة من الرومان والإغريق والفرس، وهي أمم مات الله عندهم، فاستبدلوا الصلاة لله بالمراسم الرئاسية.
- إن المراسم الرئاسية تشبه خدع التنكر عند الحيوانات، فالحيوانات الفرائس تدافع عن نفسها بالخدع البصرية والأصبغة وحيل التخفي أو الترهيب، والحيوانات المفترسة تتبع مراسم التخفي والتنكر للافتراس. وأظن أنّ هذه المراسم هي حيل لافتراس الشعب، وأنّ الشعب يصفق حيلة لتجنب الافتراس.
- علمنا أنَّ الرئيس المصري كان يُوحى إليه، والوحي هو الإعلام في الخفاء، لكن الرئيس المصري الملهم أعلمنا هذه المرة أنَّ ربنا جه (جاء) وقال له: خذ البركة. والبركة تذكّر بالبركة التي أخذها العيص من أبيه إسحاق عليه السلام بالخدعة، فنالها. ونعلم من قصص الوثارة أنَّ يعقوب عليه السلام خُدع مرة أخرى عندما زوجّه خاله من ليا وكان يريد راحيل، ثم تزوج الأختين، وخُدع مرة ثالثة عندما أخذوا ابنه يوسف عليه السلام ورموه في الجب. ربما نتذكر انخداع مرسي بخدعة السيسي نزع البكورية (ولاية العهد) منه.
الأمثلة كثيرة في التاريخ على إنكار المسلمين لطقوس المراسم ونفورهم منها، نجدها في زيارة صاحب كسرى عمراً، والتي كتبها حافظ إبراهيم في قصيدة شهيرة حفظناها، وزيارة ربعي بن عامر لرستم، وزيارة المغيرة بن شعبة لمعسكر رستم وغيرها كثير.
بقي العرب ينزعون إلى الفطرة حتى أيام شكري القوتلي، ويروي أمين الريحاني في كتابه "ملوك العرب" أن العرب كانت تزور مؤسس الدولة السعودية وتناديه باسمه، ثم جعل نفسه صاحب الجلالة، ثم كثرت المراسم حتى رأينا ولي العهد السعودي بعد قتل الخاشقجي يرقى الكعبة هو ومجموعة من حاشيته.
صحيح أن للامام الشافعي رحمه الله قال أبيات شعر حكيمة منها :
(بقدرِ الكدِّ تكتسبُ المعالي ** ومن طلب العلا سهر الليالي . ومن رام العلا من غير كدٍّ ** أضاع العمر في طلبِ المحالِ) ، و صحيح أن شاعراً غير معلوم قال بيت شعر حكيم ( ومَن طلبَ العُلومَ بِغيرٍ كدٍّ ** سيُدرِكُها إذا شــابَ الغُرابُ) ... لكن هذه الأشعار ولَى زمنها في عهد القيادة " الجكيييمه" لأن بشار الفصيح و ولده عبقري الرياضيات يجب أن ينجحوا بالشرعية النضالية فقط من دون تعب لينطبق عليهم بيت الشعر المشعور (و من طلب العلا شخر الليالي ** و نام في صف على البنك طوَالي) !!