دشنت الولايات المتحدة الأمريكية عقب هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر مصطلح "الحرب الأبدية"، وهي كناية عن حروب مفتوحة في الزمان وممتدة في المكان ولا نهاية لها، ضد عدو غير مرئي أُطلق عليه "
الإرهاب".
وانطلقت غزوتا أفغانستان والعراق إبان حقبة جورج بوش الابن ظاهرياً بغرض ملاحقة "جذور الإرهاب"، وبذريعة توفير نظام الإمارة الإسلامية تحت حكم
طالبان في أفغانستان ونظام بعث صدام حسين في العراق ملاذات آمنة للقاعدة. لكنَّ الغزوتين في حقيقة الأمر لا تخرجان عمّا وصفه الرومان بـ"حروب العبرة"، فالهدف المنشود للحروب الأبدية كان إعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية العالمية للتكيّف مع نهاية الوضع "ثنائي القطب" عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث بات ما أُطلق عليه "الإرهاب الإسلامي" ذريعة للحروب الإمبريالية الأبدية، رغم أن "الإرهاب" لا يشكل أي تحد جيواستراتيجي حقيقي.
بعد عشرين عاماً من الإطاحة بحركة طالبان، باتت عودة إمارة طالبان الإسلامية إلى الحكم مسألة وقت، ولا تبدو ذرائع الرئيس الأمريكي جو بايدن بإنهاء الحروب الأبدية غير مقنعة، فلا زالت طالبان تقدم نفسها قائدة للجهادية العالمية، وينافسها تنظيم الدولة على قيادة الجهاد العالمي
بعد عشرين عاماً من الإطاحة بحركة طالبان، باتت عودة إمارة طالبان الإسلامية إلى الحكم مسألة وقت، ولا تبدو ذرائع الرئيس الأمريكي جو بايدن بإنهاء الحروب الأبدية غير مقنعة، فلا زالت طالبان تقدم نفسها قائدة للجهادية العالمية، وينافسها تنظيم الدولة على قيادة الجهاد العالمي. وإذا كان الغزو الأمريكي لأفغانستان دفع طالبان إلى الانغماس في الجهادية العالمية، فإن غزو العراق أدى إلى ولادة تنظيم الدولة وتنامي الجهادية العالمية. وإذا كانت التقارير الاستخبارية تتنبأ بعودة تنظيم الدولة في العراق وسوريا، وتؤكد على تمدد نشاطه وتوسعه في أفريقيا وجنوب آسيا، فقد حذرت "مجموعة دراسة أفغانستان" التي شكلها الكونغرس، من أنَّ "الانسحاب المتسرع قد يؤدي إلى إعادة تكون التهديد الإرهابي للوطن الأمريكي في غضون 18 شهراً إلى ثلاث سنوات".
تكشف المراجعة التي تجريها واشتطن حول إنهاء الحروب الأبدية عن هشاشة ذريعة حربي أفغانستان والعراق، وباقي التدخلات والغزوات في أكثر 50 دولة في آسيا وأفريقيا. فالحروب الدائمة على مدى عقدين والتي تمت بموجب تشريع، يُسمى ترخيص استخدام القوة العسكرية (AUMF)، والذي تم إقراره في عام 2001 لمنح إدارة جورج دبليو بوش مجالاً واسعاً من الحرية في عملها والرد على الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، كانت في حقيقتها استكمالاً لمشروع القرن الأمريكي الجديد للقضاء على ما يُسمَّى "الدول المارقة"، وإرغام الدول المستقلة على مزيد من الولاء أو استبدالها بحلفاء أقوى، وتحذير المنافسين الاستراتيجيين مثل الصين من أنَّهم يجب ألا يفكروا حتى في التنافس مع الولايات المتحدة.
لم يكن تفويض الكونغرس للحروب الأبدبة الأمريكية يتعلق بحرب الإرهاب فحسب، وإنما شكل ذريعة للهيمنة والتفرد العالمي. فقد جاء في تعريف الولايات المتحدة للعلاقات الدوليّة في عصر ما بعد الحرب الباردة، من خلال وثيقة استراتيجية الأمن القومي التي أُعلن عنها في صيف 2002 والتي اُعيد التأكيد عليها في عهدي أوباما وترامب، تشديد على أنها مصمّمة ليس فقط على الحفاظ على موقع الصدارة في العالم، بل على معارضة أي محاولة من أي دولة في العالم لمنافسة أمريكا في صدارتها.
الحرب ضد الإرهاب التي كانت ذريعة لديمومة الهيمنة والتفرد جاءت بنتائج مغايرة، فالحرب على الإرهاب التي عُرفت بأنها كفاح دائم ضد تهديد دائم مسرحه الرئيس الشرق الأوسط؛ ساهمت بتراجع القوة الإمبريالية الأمريكية، وبروز الصين لتكون المركز الجديد لتراكم رأس المال العالمي
لكن الحرب ضد الإرهاب التي كانت ذريعة لديمومة الهيمنة والتفرد جاءت بنتائج مغايرة، فالحرب على الإرهاب التي عُرفت بأنها كفاح دائم ضد تهديد دائم مسرحه الرئيس الشرق الأوسط؛ ساهمت بتراجع القوة الإمبريالية الأمريكية، وبروز الصين لتكون المركز الجديد لتراكم رأس المال العالمي. فالهبة التي قدمها أسامة بن لادن لجورج بوش الابن والمحافظين الجدد كي تُظهر أمريكا مدى قوتها لأعدائها وأصدقائها بأنَّ الإمبراطورية قادرة على فعل كل شيء؛ تحولت إلى نقمة.
في سياق الحروب الأمريكية الأبدية بلغ عدد العسكريين الأمريكيين في الخارج ممن هم في الخدمة الفعلية وقوات الاحتياط أكثر من 240 ألف فرد، موزعين على أكثر من 172 بلداً أو إقليماً. فحالة امتداد قوات الجيش الأمريكي إلى خارج الأراضي الأمريكية لم تشهد انكماشاً، إذ أن القوات الأمريكية لا تشارك فعلياً في الصراعات المنتشرة في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وحسب، وهي البلاد التي تحتل أخبارها مساحة في العناوين الرئيسية للصحف ووسائل الإعلام الأخرى، بل هي منخرطة أيضاً في الصراعات الدائرة في آسيا وأفريقيا؛ كالنيجر والصومال ومناطق أخرى.
لا يبدو أن حروب أمريكا الأبدية ستنتهي، بل ستأخذ منحى جديداً. فقضية السياسة الخارجية التي تتمتع باتفاق الحزبين الديمقراطي والجمهوري وأكد عليها الرئيس السابق دونالد ترامب والحالي جو بايدن؛ هي الحاجة إلى إنهاء تورّط الولايات المتحدة في "حروب لا نهاية لها" في الشرق الأوسط، وهي رؤية تستند إلى أنّ المصالح الأمريكية في المنطقة قد تراجعت، لكنها لم تختف، حيث يبحث كلا الحزبَين عن إيجاد طرق جديدة لتعزيز المصالح الأمريكية التي تتمثل بمحاربة الإرهاب، ودعم الحلفاء، والتصدي لروسيا والصين بكلف أقل.
ضية السياسة الخارجية التي تتمتع باتفاق الحزبين الديمقراطي والجمهوري وأكد عليها عليها الرئيس السابق دونالد ترامب والحالي جو بايدن؛ هي الحاجة إلى إنهاء تورّط الولايات المتحدة في "حروب لا نهاية لها" في الشرق الأوسط
فبحسب ستيفن مارتن والت، أستاذ الشؤون الدولية في كلية جون كينيدي لعلوم الحكم بجامعة هارفارد، من الناحية الجيوسياسية البحتة تعد الصين أخطر منافس واجهته الولايات المتحدة منذ نهاية القرن 19. وقد ثبت أن الإرهاب الدولي أقل خطورة بكثير مما ادعى قادة الولايات المتحدة، خاصة عند مقارنته بالعنف الذي يمارسه المتطرفون المحليون اليمينيون، أو وباء كوفيد-19 الذي قتل ما يقرب من 575 ألف أمريكي.
اتفقت الإدارتان الأمريكيتان السابقتان على وجوب قيام الولايات المتحدة بتقليص وجودها العسكري في جميع أنحاء العالم، وعكْس النموذج القائم منذ وقت طويل لنهج مكافحة الإرهاب العالمي، حيث توضح "استراتيجية الدفاع الوطني" لعام 2018، أن "التنافس الاستراتيجي بين الدول هو اليوم الشاغل الرئيس للأمن القومي الأمريكي، وليس الإرهاب".
وعلى عكس بوش الابن الذي كان يُفضِّل "قوات على الأرض"، تبنَّى أوباما، على حد تعبير ديفيد سانغر من صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، "القوة الصلبة الخفية"، في إشارة إلى ضرورة "وجود بسيط" يُمكِّن الولايات المتحدة من خوض حروبها خفيةً، وتنفيذ عملياتها بسرعة على غرار عملية اغتيال بن لادن، ومن ثَمَّ تجنُّب التورطات الطويلة.
كانت الخطة الكبرى الجديدة هي "التحول نحو آسيا" التي تضمَّنت نشر الجزء الأكبر من القوة البحرية الأمريكية في منطقة المحيطين الهادئ والهندي لاحتواء الصين
لقد أضفى أوباما على أسلوبه في شن الحرب "عدوانية" وجدها المحيطون به "مُفاجِئة"، وهكذا يمكن أن يستمر خوض ما يُسمَّى بـ"الحرب اللا متناظرة" ضد المجموعات غير النظامية مثل طالبان والجهاديين إلى الأبد. وكان أوباما يريد تغيير الاستراتيجية العسكرية الأمريكية العالمية إلى استراتيجية أكثر ملاءمة لقوتها المتصورة في الحرب التقليدية بدلاً من عمليات مكافحة التمرد، فكانت الخطة الكبرى الجديدة هي "التحول نحو آسيا" التي تضمَّنت نشر الجزء الأكبر من القوة البحرية الأمريكية في منطقة المحيطين الهادئ والهندي لاحتواء الصين.
تطرح عودة نظام "الإمارة الإسلامية" في أفغانستان الطبيعة البراغماتية للمعنى الأمريكي للحروب الأبدية على الإرهاب، فقد قامت الولايات المتحدة بغزو أفغانستان في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2001 للإطاحة بحركة طالبان، متهمة إياها بإيواء أسامة بن لادن وشخصيات أخرى في القاعدة مرتبطة بهجمات 11 أيلول/ سبتمبر في الولايات المتحدة. وعندما وقّعت واشنطن اتفاقاً تاريخياً مع حركة طالبان في الدوحة في 29 شباط/ فبراير 2020، كان أحد أهم بنود الاتفاق عدم سماح طالبان لأي من أعضائها أو أفراد أو مجموعات أخرى، بما في ذلك تنظيم القاعدة، استخدام أراضي أفغانستان لتهديد أمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها، وهو بند يشير إلى أنه بعد مرور عشرين عاماً على هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، لم تحقق الحملة الدولية على الإرهاب بقيادة واشنطن سوى انتصارات تكتيكية دون تحقيق نجاحات استراتيجية.
تستكمل الولايات المتحدة الأمريكية انسحابها من أفغانستان دون تحقيق نجاح يُذكر، وطالبان في طريق العودة إلى السلطة والحكم. وإذا كانت أمريكا تُطلق على خروجها من أفغانستنان انسحاباً، فإن طالبان تسميه هزيمة. إذ لم تتمكن الولايات المتحدة من فرض شروطها على طالبان
لا تبدو الولايات المتحدة مكترثة بمستقبل أفغانستان، ولا يعدو الحديث عن الخشية على الديمقراطية وحقوق الإنسان ومكاسب النساء؛ عن كونه رطانات بلاغية. فحسب الفيلسوف آلان باديو، العالم يحاول أن يتحد في ظل سوق الرأسمالية العالمية، بينما يخفي بقدر الإمكان طبيعته الشرسة في اللا مساواة؛ عالم يستعد لحرب جديدة لاكتشاف الدولة الجديدة التي ستتمكن من الهيمنة العالمية. وهذا هو الدور الذي لعبته الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الأخيرة.
فكل هذه الأكاذيب المنظمة حول الطبيعة الحقيقية للعالم المعاصر مع الخطابات الغربية حول "الديمقراطية"، و"حقوق الإنسان"، والكثير من الهراء، يجب وضعها في أماكنها الحقيقية على وجه التحديد وإعادتها لحقيقتها، فنحن في عالم ظالم وخطير يجب اقتلاعه من حكم "الأوليغارشية" التي لا يعنيها سوى الاستغلال.
في نهاية المطاف سوف تستكمل الولايات المتحدة الأمريكية انسحابها من أفغانستان دون تحقيق نجاح يُذكر، وطالبان في طريق العودة إلى السلطة والحكم. وإذا كانت أمريكا تُطلق على خروجها من أفغانستنان انسحاباً، فإن طالبان تسميه هزيمة. إذ لم تتمكن الولايات المتحدة من فرض شروطها على طالبان، وتركت الحكومة الأفغانية الموالية لها لتواجه مصيرها وحيدة.
سيطرة طالبان تعني خلق مشاكل لروسيا والصين وإيران وحتى باكستان والهند، لكن مغادرة القوات الأمريكية أفغانستان ستمثل في نفس الوقت نهاية بائسة لاستراتيجية الاشتباك العسكري المباشر بهدف إعادة تشكيل الشرق الأوسط جذرياً، والتي أدت على النقيض من أهدافها إلى قلب التوازن الاستراتيجي العالمي رأساً على عقب
فأمريكا في ذروة الحرب، عندما كان هناك أكثر من 130 ألف جندي (من 50 دولة من دول الناتو ودولٍ شريكة) في أفغانستان، لم تتمكن من كسر شوكة حركة طالبان، ومع ذلك فإن الحرب الأبدية الأمريكية لن تنتهي وستتغير آلياتها دون أن ينتهي ما يُسمى "الإرهاب". لكن قدرة أمريكا وفعالية تكتيكات حرب الإرهاب تتراجع دون وجود قواعد ثابتة، فبعد أن غادر الجيش الأمريكي قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان ذات الأهمية الاستراتيجية التي تعتبر بؤرة الحرب لإطاحة طالبان ومطاردة أعضاء تنظيم القاعدة، سوف تصبح مهمة حرب الإرهاب في غاية الهشاشة. فعلى مدى عقدين شكلت قاعدة باغرام مركزاً رئيسياً لقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة.
خلاصة القول أن طالبان تُعيد تشكيل حرب الإرهاب، ومعنى الحروب الأبدية الأمريكية. إذ لا تقتصر الأهداف الأمريكية بالانسحاب من أفغانستان على أولوية التنافس الاستراتيجي بين الدول ومواجهة التداعيات الاقتصادية والصحية لجائحة "كوفيد 19"، بل على خلق حالة من الفوضى في جنوب آسيا. فسيطرة طالبان تعني خلق مشاكل لروسيا والصين وإيران وحتى باكستان والهند، لكن مغادرة القوات الأمريكية أفغانستان ستمثل في نفس الوقت نهاية بائسة لاستراتيجية الاشتباك العسكري المباشر بهدف إعادة تشكيل الشرق الأوسط جذرياً، والتي أدت على النقيض من أهدافها إلى قلب التوازن الاستراتيجي العالمي رأساً على عقب، وهو ما يقود إلى ديمومة الحرب بطرق وساحات أخرى، ويكشف طبيعة الحرب المتأصلة في الرأسمالية، وأقنعتها الأيديولوجية التي تتخفى خلف مصطلحات "الإرهاب" و"التنافس"، وغيرها من الرطانات البلاغية.
twitter.com/hasanabuhanya