في وقت قريب، لن يكون هناك ذكر لبلد اسمه
سوريا، إلا بوصفها جهة مصدّرة للاجئين، وقد تصبح في مخيال الشعوب بلادا ومساحات من ريح وقيظ غير صالحة للحياة الآدمية، أو جزرا نائية تقع تحت سيطرة القراصنة، وتسكنها كائنات غرائبية مختلفة.
مرّ على السوريين عقد كامل من العذاب، عاشوا خلاله كل ألوان الألم وأشكال المعاناة، أكلوا أوراق الشجر وطبخوا ألواح الصبار، وقفوا نهارات بطولها ليحصلوا على بضع أرغفة خبز، نسوا الدفء في الشتاء والتكييف في الصيف. والجيل الجديد، يعني من هم حتى سن 14 عاماً، لم يتذوقوا طعم المشمش والدراق والكرز، وهي منتجات تنتجها سوريا منذ الأزل، ومرّ كبار السن أمام بسطات الحلويات، وربما تباهوا أمام أحفادهم بأنهم كانوا يأكلون في السابق من هذه الأصناف.
لدى كل شعوب الدنيا تكون حياة الأجيال الجديدة أفضل بما لا يقاس مع الأجيال التي سبقتهم، بسبب التطوّر والوفرة في السلع الاستهلاكية، وكذلك توفّر السيولة وتطوّر طرق ووسائل تحصيل الأموال من جيل لأخر. وعادة ما يغبط أبناء الجيل السابق الجيلَ الجديد على ما يتوفر له من رفاهية لم يكن ممكناً الحصول عليها في السابق، باستثناء سوريا فالعملية معكوسة، حيث عادت الحياة إلى زمن لم يعرفه السوريون ولم يسمعوا عنه حتى في حكايات الجدات.
الناس أمام خيارين: إما تهيئة النفس لما هو أحط من ذلك بكثير، لأن الأفضل هو الراهن بكل عيوبه ومساوئه، وإما الرحيل، وهو خيار لم يعد متاحاً بسهولة
هذا الانقلاب في نمط الحياة وطرق الاستهلاك، بالإضافة إلى الشعور الدائم بالتهديد، وانعدام الأمان والطمأنينة، وما يرافق ذلك من سياسات متعمّدة لإذلال كرامة الناس وسحق معنوياتهم، في ظل انعدام كامل للقوانين، وتحوّل كل من يعمل مع السلطات إلى أنصاف آلهة لا يمكن حتى النظر في عيونهم، وليس مساءلتهم، تضع الناس أمام خيارين: إما تهيئة النفس لما هو أحط من ذلك بكثير، لأن الأفضل هو الراهن بكل عيوبه ومساوئه، وإما الرحيل، وهو خيار لم يعد متاحاً بسهولة.
على ذلك، لم يكن مستغرباً ما خلصت إليه دراسة استقصائية، نشرها مركز "السياسات وبحوث العمليات (OPC)؛ من أن "ثلثي سكان دمشق يرغبون بالهجرة، وتمنعهم عن تحقيق تلك الرغبة تكاليف التنقل. فمثلاً بات الوصول إلى تركيا يكلف أكثر من ثلاثة آلاف دولار للشخص، بل إن الانتقال من دمشق إلى إدلب، والتي رغم كل ظروفها الصعبة باتت جنة بالمقارنة مع دمشق، بات يكلف الشخص الواحد أكثر من ألف دولار، في بلاد لا يتجاوز مرتب الشخص في القطاعين العام والخاص أكثر من ثلاثين دولارا!
إزاء ذلك، هل ثمّة أفق أمام السوريين؟ إذ لا الظروف المعيشية التي يحيونها يمكن التكيّف معها طول العمر، ولا الرحيل عن سوريا هو حل لملايين السوريين، وليس في الحاضر السوري سوى بشار
الأسد، ومن خلفه بوتين الذي لا يرى في سوريا إلا حقل رماية لتجريب أسلحته، وحقول نفط وغاز ومناجم فوسفات لإشباع نهم المافيا التي تحيط به.. وخامنئي إيران، الذي لا يرى في سوريا إلا فرصة لتعديل الميزان الديمغرافي والديني لصالح الشيعة في المنطقة.
من غير المتوقع حصول تغييرات مهمة في المواقف الدولية ولا حتى العربية تجاه سوريا في ظل وجود بشار الأسد، حتى الأنظمة التي تدعمه لأسباب تتعلق بخوفها من الثورات، لن تستطيع تقديم شيء مهم له، بسبب الانحطاط الأخلاقي الذي وصل إليه وتحوّله من مستبد إلى مجرم حرب وتاجر مخدرات
دعونا نتخيل استمرار الوضع في سوريا على ما هو عليه الآن عقداً أخر من الزمان، حيث المعطيات نفسها ما زالت موجودة، ولا مؤشرات لحدوث متغيرات فارقة، طالما أن الوضع الحالي واستمراره يتوافقان مع مصالح الفاعلين الخارجيين والداخليين، ترى أين ستصبح سوريا؟
من غير المتوقع حصول تغييرات مهمة في المواقف الدولية ولا حتى العربية تجاه سوريا في ظل وجود بشار الأسد، حتى الأنظمة التي تدعمه لأسباب تتعلق بخوفها من الثورات، لن تستطيع تقديم شيء مهم له، بسبب الانحطاط الأخلاقي الذي وصل إليه وتحوّله من مستبد إلى مجرم حرب وتاجر مخدرات، باستثناء دعم سياسي أجوف، لن ينتشل سوريا من ظروفها. كما أنه ليس من مصلحة إيران وروسيا تغيير الظروف في سوريا للأفضل، حتى لو توفرت لهما الأموال لفعل ذلك، لتأثير ذلك على مشاريعهما الجيوسياسية وخططهما المستقبلية، وهما معنيتان بقدر من الدعم يحافظ على بشار الأسد في السلطة، من خلال شحنة نفط من هنا وشحنة قمح من هناك.
النتيجة الطبيعية لكل ذلك، هي تآكل سوريا واستمرار نزيف شعبها وثرواتها، فكل يوم تضيق سوريا على من تبقى من ساكنيها، في العيش والأمان والاستقرار، عن اليوم الذي سبقه، وكل يوم تتحوّل هذه البلاد إلى هشيم ستأنف حتى الريح من أخذه في طريقها.
twitter.com/ghazidahman1