كتاب عربي 21

التونسي يحتفل بعرس الخنفساء

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
سنتعرف على العروس في آخر النص، لكن لنتعرف أولا على المحتفل السعيد، إنه المثقف التونسي الذي يردد هذه الأيام سؤالا موجعا: لماذا سيطرت التفاهة على تونس بعد الثورة؟ وطارح السؤال غير مشمول به طبعا فهو يتطهر.

بدايات الإجابة عند الرجل السعيد المشمئز في الباطن؛ هي أن من تصدى للحكم لم يكن في مستوى المرحلة، لذلك أمكن خداعه والتسرب من بين الفُرج الكثيرة في صفه ليكون المشهد برمته رديئا؛ في الإعلام وفي السياسة وفي الاقتصاد. أظن أن هناك إجابة أخرى تقوم على أن هذا العود من تلك الشجرة، أو باستعارة جملة تراثية قابلة للتأويل على كل الوجوه "كما تكونوا يولى عليكم". إن التفاهة كامنة في الأصل الذي كان برنامجه المدرسي ذات يوم هي أقصوصة عرس الخنفساء، وكان يمتحن فيها ويتخيل خنفساء تضع كحلا في عينيها الدعواجيتين فوق أحمر شفاه قان.

الخيال والغريزة

ليس هناك في علم الاجتماع صورة مثالية لشعب مثالي يمكن اتخاذها مقياسا للحكم. فالفعل البشري/ الاجتماعي ليس إلا مزيجا من الرغبات والمطامع والأحلام الكبيرة أحيانا؛ تتشكل تحت ضغوط مختلفة. والفرد يكد من أجل البقاء غالبا، لذلك يتخذ سبلا تقوم على اقتصاد الجهد ورفع المغنم.. هذه قاعدة سلوك كونية، لكننا نفرز في خريطة الشعوب شعوبا تقودها روح جماعية خلاقة، جعلت منها شعوبا قوية ومتحكمة بما يسمح بإجراء قياسات للاختلاف ضمن الصورة العامة.

لا يمكننا تجاهل الخروج العبقري من تحت أنقاض حرب مدمرة لدولتين مثل اليابان وألمانيا، وربما نضيف إليهما ما اتفق على تسميتها بدول "النمور" التي لم تكن شيئا مذكورا وصارت معالم يقتدى بها في الاقتصاد والاجتماع. لم يكن ذلك نتيجة قوة الزعامة السياسية، لكن نرجح وجود ما نسميه بالروح الجماعية الخلاقة التي يتعلم منها الفرد أن يكون قويا ضمن شعب قوي.

كيف تولد هذه الروح في الثقافة الموحدة للشعب وكيف تتحول إلى سلوك جماعي بنّاء؟ يعسر علي أن أجد إجابة علمية، لكني أرى النتائج على الأرض مصهورة من كيمياء خاصة، وأدخل مجبرا في مقارنات لأصل إلى التفاهة المسيطرة هنا (وأعمم عربيا) والتي تثير قرف المثقفين فيتهمون ولا يبحثون.

أين الخلل الذي منع شعبا مثل الشعب التونسي من أن يحول ثورته إلى مصهر كيماوي؛ يحوله من كتلة بشرية مضطهدة بقرون من الانحطاط والاحتلال إلى شعب خلاّق؟

هل كان تحويل الثورة منذ شهرها الأول إلى موجة مطلبية فردية وقطاعية أمرا عاديا في الثورات، أم أن ذلك كان تعبيرا طبيعيا عن روح شعب لم يرتق إلى حالة شعب له روح جماعية تزين له مكانته في العالم، فتوجه سلوكه نحو قيم التضحية والمجد والصبر على الكلفة الشاقة؟ وهي قيم كتبها شعرا ولم يلتزمها في السلوك. إننا في تونس نردد مع المتنبي: "إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام"، ولكننا ندفع أولادنا إلى مدارس تعلمهم عرس الخنفساء.

الزعيم الإله ومدرسته القاصرة

إني اتهم الزعيم بنشر التفاهة، وما نعيشه الآن مما يزعج المثقفين هو ثمرة مدرسته. لقد حشرنا في المقررات التربوية بين أمرين لا فكاك منهما: تقديس شخصه إلى حد إخراجه من صنف البشر إلى صنف الآلهة، في مقابل دفعنا إلى سوء الظن بأنفسنا حتى احتقرنا ذواتنا أمام عظمته. وكانت المقررات المدرسية تكرس هذا في نفوس الناشئة كل صباح.. غبار البشر الذي لم يكن ولن يكون دون الزعيم.. غبار البشر ينشغلون بالقوت وينتظرون الموت كما في أمثلتهم الشعبية.

لقد أنجز الزعيم كل العظمة والمجد، فلم يعد لدى الشعب فرصة أو حاجة للمزايدة عليه. وقد اكتشفنا في مرحلة لاحقة (بعد الثورة خاصة) أن طالبي الزعامة أو مدعيها قد استنسخوا صورة الزعيم، بما كشف أن مبلغ خيالهم وطموحهم أن يكونوا نسخا منه لا زعماء مختلفين. وكانت هيمنته وهو ميت محركا رئيسيا لسلوكهم، فكان أول شغلهم زيارة ضريحه في حج سنوي. إنه يستعبدهم بعد وهم لا يتفطنون إلى عجزهم الذي يصغرهم ويقتل خيال من يريد التحرر من شبحه المهيمن.

لكن هذا نصف الصورة، أما نصفها الآخر فقد جسّده مقرر تربوي في اللغة الأم حيث يُصنع الخيال، أي العربية. لقد كانت العربية في مدرسة شعب عربي لغة ثانية لا تصنع أفقا لشيء. العارف بالعربية كان يجد بها عملا وحيدا أن يعيد تدريسها بلا أفق، بينما العارف بالفرنسية يجد أعمالا وتفتح له الأبواب. ومن عجيب ما حدث في تونس أن أشهر من حمل حقيبة التربية (محمود المسعدي) كان كتب بعربية قديمة، لكنه طبق برنامج التعليم الفرنسي بحذافيره وبلغة فرنسا لا بلغته، فأدام وضع الهيمنة الفرنسية نصف قرن بعد خروج جيوشها. لكنه في الأثناء فرض رواياته على المقررات المدرسية، فنشأت أجيال متتابعة على نص وحيد لا يبدو أنه سيتغير في المدى المنظور. وبالمناسبة، هو نص في الوجودية العدمية أقرب ما يكون إلى عدمية البير كامو الانتحارية.

في خيالنا الطفل ونحن نتلقى أول دروس التخييل؛ خنفساء تستعد للزواج وسلحفاة اسمها بادرة وحلزونة اسمها السيدة بزاقة، وشخصيات من القاع الاجتماعي اسمها خليفة لقرع وبو دودة وعمي الدحداح بياع التفاح وشعاطيط بعاطيط (وأرجو ألا يسألني عنها أحد، فسرّها عند العروسي المطوي، رئيس الشعبة الحزبية الذي ترأس اتحاد كتاب تونس حتى توفاه الأجل)، ومعها الثعلب يحتال على الغراب بلغة لافونتين. وعندما دخلت التلفزة بيوتنا وجد أولادنا (الذين هم قادة اليوم) مغامرات الأخطبوط (قرينط الشلواش) وعلى نقار الخشب (نقار الزهواني).

أين اختفى نسر أبو القاسم الشابي الذي تركه فوق القمة الشماء؟ لقد كان هناك نسر وحيد على رأس الدولة ولا مجال لتخيل نسر آخر يطير بجانبه، لذلك كان يجب غرس رؤوس الناشئة في قوقعة السلحفاة بادرة والزحف مع الحلزون بزاقة لحضور عرس الخنفساء. هل كان الزعيم هو من يضع البرامج المدرسية؟ لا أبدا، ولكنه كان يختار الرجال الذين يضعونها طبقا لهواه وصورته. لقد كانت التفاهة اختيار دولة ونحن نقطف ثمر هذا الاختيار الآن.

كيف خرجت الثورة من هذا الركام إذن؟

ما ذكر أعلاه يقدم صورة لشعب بلا روح لكن هذا الشعب ثار، فكيف واتته الجرأة؟ بعد عشر سنوات من التأمل في حدث الثورة وما تلاه، أجزم أنه الحدث الاستثناء الذي يؤكد قاعدة الشعب الفاقد للخيال الخلاق. لقد دامت الثورة أسبوعين أظهر فيهما بعض الناس - لا كلهم - وجها إيثاريا مستعدا للشهادة في سبيل الوطن (نصف الشعب كان ينهب المغازات الكبرى منذ الساعات الأولى للثورة).

ثم انفجرت المطالب الفئوية والقطاعية والجهوية، فلم يعد يُسمع غير حديث: أعطني ما أعطيتَ للآخرين، أو لقد نال الآخرون مغنما فهات مثله. تحولت المدن إلى مقاطعات تطلب لها لا للوطن، ثم تقدمت النقابات في المشهد فحولت كل المال العام لمنظوريها، وتفشى سلوك الاستهانة بالقانون وبالعمل، وصار آخر هم كل فرد أن يقوم بواجبه. وقد وصل النضال القطاعي إلى حد إغلاق المشافي في وجوه المرضى وتركهم يموتون أمام البوابات. في كل نقابة كان هناك قرينط الشلواش؛ يقود جمهورا من السلاحف والحلازين ويحتفلون بالمغانم على طريقة الخنفساء.

إن هذه الشخصيات الكاريكاتورية المعبرة بكل بلاغة عن الرغبات الغريزية الخالية من الذكاء تظهر على أتم صورها في قطاع الإعلام، حيث يمكن لمن يملك مالا أن يشتري صحفيا ويغرقه بالمال ويكلفه ببث الأراجيف، فكان الإنجاز الأكبر في قطاع الإعلام هو عشر سنوات من الكذب والفبركات.

لنفهم الرداءة المهيمنة وجب أن نعود إلى مقدماتها المؤسسة، فلا معنى للتفطن إلى نتيجتها الأخيرة دون هذا التأصيل. وإذا كان لا بد من إجراء مقارنات مع حالات شعوب نهضت من كبواتها، فالأحرى أن نبدأ من المدرسة التي تصنع الخيال. وظني أن نبدأ من دحض الوهم المصطنع عن شعب مثقف صنعته مدرسة عصرية أسسها زعيم عبقري.

الشعب التونسي تعلم نعم، لكنه تعلم أن يكون "شَلْوَاشْ" أو "شلاوشي"، وهذا لفظ تونسي بحت ويعني أن يحسن المرء تدبير أموره بكل السبل، بما في ذلك الكذب والنفاق. هذا الشلواش شارك في الثورة وقطف جناها في جيبه الخاص، وليس لديه أدنى فكرة عما خسر من بناء خيال جديد، حتى أنه لا يتخيل عمق الكارثة التي يصنعها الآن بدفع البلد إلى الانهيار فوق رأسه ورأس جيرانه الذين لا يبادلهم تحية الصباح إلا بثمن. نحن الآن في عرس الخنفساء وقد تبرجت بأحمر شفاه قان.. وله رائحة دم.
التعليقات (4)
نجلاء محمدي
الأربعاء، 09-06-2021 09:39 ص
لقد وضعت يدك على جرح الأمة ووصفت الدواء لكن لن نبرأ إذا لم نأخذ الدواء جميعًا!!!فكيف السبيل إلى ذلك.
مختار بن موسى
الأربعاء، 09-06-2021 08:28 ص
وصف دقيق صادق للواقع التونسي خلال 65 عاما ونظرة ثاقبة للحقائق والحل بسيط جدا سمعناه وفقهناه ولكننا لم نعمل به ز نحن قوم اعزنا الله بالإسلام وكلما ابتغينا العزة في غيره ادلنا الله
ناصحو أمتهم
الأربعاء، 09-06-2021 12:02 ص
ذاك هو التخريب الحضاري الذي اراده المحتل عبر عبده الذي سلمه السلطة بعد أن صفى الشق الأصيل من حركة الاستقلال. و النتيجة غبار من البشر كل منهم كتلة من التشوهات الذهنية و اللسانية و الذوقية.
جلال الرنان
الثلاثاء، 08-06-2021 11:35 م
أتمنى أن يُدرسَ هذا التحليل و التشخيص لجميع السياسيين و الإعلاميين و الحقوقيين و الإديولوجيين وكل من يدعون أنهم مثقفون. أنا أستشهد كذلك على بؤس ما نعانيه عموما بأن صاحب هذا الفكر و مُشخِّصَ هذا التحليل و أمثاله لا يقودون هذا الشعب ولا يُصدَّرون لزعامته.