هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
على مدار السنوات الأخيرة، كتبت مرارا عن تعبير شائع بالغ الشذوذ، يتردد بإلحاح في الأدب السياسي اليومي، المتصل بالقضية الفلسطينية، ويتخوف مما يسميه "تصفية" القضية، كلما ألمت بنا وبها مصيبة سياسية، من نوع خطة ترامب وصفقة القرن واتفاقات "إبراهام" التطبيعية، وكان رأيي دائما أنها "التصفية المستحيلة" على حد نص عنوان مقال كتبته، ونشر في "القدس العربي" في 20 تموز/يوليو 2019، ولم أكن أعول في ما ذهبت إليه على أوهام، ولا على أمنيات، بل على حقائق الواقع الصلبة، وأهمها حضور الشعب الفلسطيني فوق كامل أراضيه التاريخية المحتلة، وبكثافة بشرية تتزايد باطراد، وقابلة للنمو إلى ثلثي إجمالي السكان فوق الأرض المقدسة عبر العقدين المقبلين، وبانتشار جغرافي ملموس في 17 إقليما، من إجمالي الستة والعشرين إقليما طبيعيا بفلسطين كلها، وبخبرات كفاحية تتراكم، وبوعي وطني جامع، يعيد القضية إلى أصولها، كقضية تحرير وطني ضد استعمار استيطاني إحلالي، لا يستطيع إلحاق الهزيمة النهائية بشعب ثابت فوق أرضه، تتوالى أجياله سيرة البذل والتضحية لاسترداد الحق الفلسطيني كاملا.
ولعل المغزى الأعظم لقيامة القدس الأخيرة، أنها القيامة غير المسبوقة للشعب الفلسطيني بقطاعاته كافة، موحدا متراصا، وبغير تفاوت بين الأرض المحتلة في 1948 والأرض المحتلة في 1967، وعلى نحو ما بدا من تكامل محسوس في جولة الكفاح الفلسطيني الراهنة، ما بين صمود القدس وصواريخ غزة، وما بين غضب ومواجهات وإضرابات مدن الضفة مع مدن الداخل الفلسطيني، وبما اتسع بخرائط حركة إلى فلسطين كلها من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، بدت فيها الناصرة كأنها نابلس، وبدت فيها اللد والرملة وحيفا وأم الفحم ويافا، كأنها بيت لحم وجنين والخليل ورام الله، فقد انضمت للقيامة الشعبية، وهي أكبر من مجرد انتفاضة.
عشر مدن فلسطينية من وراء ما يسمى "الخط الأخضر" وانضم قرابة المليوني فلسطيني في الداخل إلى خمسة ملايين بالضفة وغزة والقدس، ونزل الشعب الفلسطيني بهيئته الكاملة إلى الميدان، وكأننا عدنا بالواقع الفلسطيني إلى ما قبل إعلان قيام دولة الاغتصاب الصهيوني عام 1948، وكأن قضية الحق الفلسطيني عادت إلى صباها الأول، وبخرائط وبطاقات حضور هائل المغزى، يزيد فيها عدد الفلسطينيين فوق الأرض المقدسة على عدد اليهود المجلوبين للاغتصاب والاستيطان، وتتسع فيها مساحة العلم الفلسطيني، ويطابق العلم رقعة أرضه بكاملها، وعلى مساحة 23 ألف كيلومتر مربع، هي جغرافيا الأرض السليبة، وهذا تطور نوعي عظيم، لم يحدث فجأة طبعا، وإن كان إلهام القدس قد بلغ به حافة الكمال الآتي.
فالذي يراقب الوضع الفلسطيني عبر العقود الأخيرة، يلحظ تداعي وانهيار الحواجز المصنوعة الفاصلة بين قطاعات الشعب الفلسطيني، وتغير مزاج الداخل الفلسطيني، الذي يطلق البعض على أهله خطأ تسمية «عرب إسرائيل»، بينما هم الفلسطينيون الأرسخ ثباتا فوق أرضهم، حتى إن اضطروا لحمل هويات وجوازات سفر إسرائيلية، فالضرورات تبيح المحظورات، لكن خاتم الروح ظل فلسطينيا عربيا بامتياز، أعادت انتفاضات غزة والضفة والقدس استظهار رسومه ونقوشه الأصلية، فحتى موعد ميلاد انتفاضة الحجارة أواخر 1987، كانت "أسرلة" الفلسطينيين تبدو كخطر داهم.
فبعد حركة تمرد قومي، مثلتها "حركة الأرض" في أواخر خمسينيات القرن العشرين، التى قمعتها وحظرتها قوات الاحتلال وأحكامها العسكرية، بعدها مال فلسطينيو الداخل إلى قدر من التماشي والاندماج، وكان كفاح طلائعهم يمضي تحت راية الحقوق المدنية وحدها غالبا، وكان الحزب الشيوعي الإسرائيلي "راكاح" وبقيادته اليهودية، هو الوعاء السياسي الأكثر ظهورا بينهم، وكانت أقسام من الفلسطينيين تذهب إلى الانضمام والتصويت لأحزاب إسرائيلية يهودية، وهي حالة بدأت في التغير المتسارع بعد انتفاضة 1987، وتصاعد الوعي الوطني القومي، والميل إلى تشكيل أحزاب عربية خالصة، وزيادة مشاركة فلسطينيي الداخل في الدفاع الميداني عن القدس وعروبتها ومسجدها الأقصى وكنيسة القيامة.
القدس فوق كونها عاصمة الروح والصلوات، بدت كمركز وحيد مؤهل لاستعادة وحدة القضية الفلسطينية، وهكذا سقطت الحواجز تباعا، وعاد الشعب الفلسطيني للاندماج في سيرة كفاح واحد متصل، أظهرته وقائع الانتفاضة الثانية أواخر أيلول/سبتمبر 2000، والانتفاضة الثالثة من تشرين الأول/أكتوبر 2015 إلى تشرين الثاني/نوفمبر 2016، التي ارتقى فيهما شهداء الداخل رفقة شهداء الضفة وغزة والقدس.
ثم بدا التحول المثير في تمام وضوحه مع الانتفاضة الرابعة الجارية حوادثها مع قيامة القدس الأخيرة، فالقدس فوق كونها عاصمة الروح والصلوات، بدت كمركز وحيد مؤهل لاستعادة وحدة القضية الفلسطينية، وهي الاختصار البليغ المكثف لتاريخ محنة الشعب الفلسطيني في مدينة واحدة، جرى احتلال قسمها الغربي عام 1948، ثم قسمها الشرقي في 1967، فوق إلهامها السحري كعاصمة أبدية لفلسطين، الذي يعيد القضية إلى أصولها، ويبدأ سيرة كفاح جديدة، تتحدى أوهام تصفية القضية الفلسطينية، وتوحي بأحلام تصفية كيان الاغتصاب الإسرائيلي نفسه، والتقدم إلى هدف بناء دولة ديمقراطية شاملة على كل أراضي فلسطين، وعلى مراحل إنجاز متلاحقة، وبأغلبية فلسطينية متكاثرة حاسمة، تفكك نظام "الأبارتايد" الصهيوني العنصري، وتستقطب فئات من التجمع الإسرائيلي نفسه، وبعمل مدروس متراكم، يستلهم سيرة الكفاح في جنوب أفريقيا بالذات، وقد نجح في قص دابر نظام استيطاني متوحش، وعبر هبات غضب شعبي، يستطيعها كل الناس، مع الاستمساك بحق المقاومة المسلحة المشروع، حيثما ووقتما أمكن.
ومما ينطوي على مفارقة ظاهرة، أن كفاح الشعب الفلسطيني يتطور، بينما الحركة الوطنية الفلسطينية القيادية في أزمة مقعدة، لا ترتقي فيها إلى مهمات المرحلة، وتعاني من الانقسام النكد بين رام الله وغزة، فوق استمرار خضوع بعضها لأوهام أوسلو وتوابعها، والبحث عن تسويات ظالمة، فوق أنها لم تعد ممكنة، ترفع شعارات خشبية من نوع دويلة الضفة وغزة، أو الخلافات حول انتخابات لا تجدي فتيلا، وصراعات تقاسم كعكة سلطة فلسطينية متلاشية الجدوى، ولا حل أفضل في ما نتصور، سوى بترك سلطة الحكم الذاتي المحدود لمصائر التحلل، والتركيز على تجديد الإطار الوطني الجامع، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كقيادة ميدانية للكفاح الوطني، مع تخلى القيادات التي هرمت عن كراسيها، وإتاحة الفرصة لأجيال جديدة عفية، تنسق الحركة والتفاعلات مع إطارات الداخل الفلسطيني، وتتبنى سياسة هجومية عنوانها "الدولة الواحدة" لا "حل الدولتين" غير المأسوف على شبابه، مع الوعي طبعا بضرورة خوض كفاح على مدى طويل نسبيا، قد يمتد إلى أواسط القرن الجاري، أي إلى وقت مرور مئة سنة على حرب النكبة عام 1948، وقتها لن يكون واردا بقاء "إسرائيل" على ما هي عليه، بسبب أثر الخلطة الفعالة، ما بين ثقل النمو السكاني الفلسطيني، وتطور أساليب الكفاح الجامع، مع الاستعداد البطولي لتحمل التضحيات، في ظل اختلال موازين القوى العسكرية، ومع اتساع آفاق تنمية المقدرة الفلسطينية، وبإبداع أجيال أفضل الشعوب العربية تعليما، وعلى نحو ما جرى بين حربي 2014 و2021 في غزة، وقفزات تكنولوجيا المسيرات والصواريخ المصنعة ذاتيا، ومضاعفة مدياتها، وبما جعل أغلبية سكان كيان الاغتصاب تحت تهديد النار، ومن دون التوقف كثيرا عند أسماء فصائل الصواريخ، فلا يصح اختصار قضية فلسطين في اسم حركة، أو فصيل، وكم من حركات جاءت وذهبت ليولد غيرها، والحق لا يعرف بالرجال، بل يعرف الرجال بالحق، لكن التحية واجبة لصناع توازن الردع الجديد، صحيح أن عدد شهداء فلسطين أكبر بما لا يقاس إلى العدد القليل من قتلى الإسرائيليين، وصحيح أن القدرة التدميرية لصواريخ الفلسطينيين لا تزال في بواكيرها، لكن آلاف الصواريخ الفلسطينية أثبتت مقدرة أعظم بمراحل هذه المرة، وشلت مظاهر الحياة في كيان الاحتلال، وأصابت الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين بالهلع العام، فوق التطور المبهر لترسانة سلاح غزة، وعجز جيش الاحتلال المرعوب من غزو بري، كان يجري في حروب سبقت، ولم يجرؤوا عليه هذه المرة خشية الاحتراق في أتون غزة.
يبقى تأكيد ما هو مؤكد، وهو أن تحرير فلسطين مهمة الشعب الفلسطيني بالأساس، وهو قادر عليها بعون الله، فالمسألة الفلسطينية قضية تحرير وطني، لها باليقين أبعاد قومية جامعة لشعوب الأمة العربية بمسلميها ومسيحييها، وأبعاد حضارية ممتدة لأمم العالم الإسلامي، فوق طابعها الإنساني التحرري العالمي، وقيامة فلسطين أولا هي التي تغير الموازين، وتحرج المتخاذلين والمتواطئين، وتستعيد قوة الرأي العام المساند للحق الفلسطيني، وتعيد تشكيل مواقف أطراف المنطقة الأهم في أجواء الغليان، وعلى نحو ما بدا ملموسا مؤثرا في تطور الموقف المصري بالذات، وهذه قصة أخرى قد نعود إليها لاحقا.