هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أن تفجر التصريحات المسربة لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أزمة سياسية داخل إيران تصل إلى حد إطلاق المرشد علي خامنئي موقفا تجاهها، فهذا أمر طبيعي، لأن الأمر لا يتعلق بمجرد استياء من تصريحات ناقدة لقاسم سليماني، ولا من نقد لمحاولات الحرس الثوري عرقلة بعض التسويات التي تقوم بها الخارجية الإيرانية فحسب، بل يكمن الاستياء في أن ظريف تجاوز الخطوط الحمر، حين وجه بشكل مباشر نقدا للاستراتيجية الإيرانية القائمة منذ الثورة الإسلامية الإيرانية.
لسنا هنا أمام صراع بين الصقور والحمائم، فهذا توصيف خارجي لمواقف وآراء سياسية، يمنح وهما بوجود تيارين قويين يتصارعان داخل الحلبة السياسية الإيرانية، وإذا كان ثمة فروق بين رؤيتين داخل إيران، فإنها لا تصل إلى حد القول بوجود تيارين استراتيجيين متعارضين، وقد بينت الأحداث دائما سقوط آراء ومواقف الإصلاحيين على صخرة المحافظين، وما تسريبات ظريف بهيمنة المستوى العسكري على المستوى السياسي، إلا دليلا على سطوة المرجعية الدينية داخل النظام الثيوقراطي.
ولما كانت المرجعية الدينية هي الحاكم الأعلى باعتبارها قوة ما فوق ديمقراطية، فإنها وحدها التي تقرر ماهية صنع القرار وموازين القوى.
أشار ظريف إلى تدخلات القائد السابق لفيلق القدس، الجنرال قاسم سليماني، وأضاف أنه ضحى بالدبلوماسية من أجل العمليات الميدانية للحرس الثوري "ضحيت بالدبلوماسية لصالح ساحة المعركة أكثر مما ضحيت بساحة المعركة لصالح الدبلوماسية".
ما قاله ظريف يطرح إشكالية في غاية الأهمية، وهي غياب الدبلوماسية كأداة لتحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية لدى أصحاب العمائم، وربما قد وضع ظريف يده على الإشكالية الكبرى المضمرة، والتي تمثل بنية النظام الإيراني القائم على العسكرة وعلى الاختراق الميداني لتحقيق الأهداف السياسية.
لا يعني كلام ظريف أنه يرفض تحول وزارة الخارجية إلى مجرد منفذ آلي لقرارات المستوى العسكري فحسب، بل إنه اكتشف من خلال تجربته الطويلة أن المستوى العسكري يعرقل كثيرا ما يمكن للدبلوماسية أن تحققه، ولذلك، لم يطالب بإلغاء الدور العسكري، وإنما جعله مكملا للسياسي، لا العكس، فالحرب امتداد للسياسة، لا السياسة امتداد للحرب.
إن ما قاله ظريف يطرح إشكالية في غاية الأهمية، وهي غياب الدبلوماسية كأداة لتحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية لدى أصحاب العمائم، وربما قد وضع ظريف يده على الإشكالية الكبرى المضمرة، والتي تمثل بنية النظام الإيراني القائم على العسكرة وعلى الاختراق الميداني لتحقيق الأهداف السياسية.
لا يتعلق الأمر فقط بأن الساحة العربية أصبحت ساحة رخوة منذ سنوات، وأن التاريخ والسياسة لا تتحملان الفراغ، وإذا ما وجد فراغ ما فسرعان ما يتم ملؤه من قبل الأقوى، بل يتعلق الأمر بآلية تفكير صناع القرار في إيران الذين ينظرون إلى محيطهم من منظار العدو.
ومع مثل هذه النظرة لا تنفع الأدوات الدبلوماسية في تحقيق الأهداف العميقة، بل لا بد من إحداث اختراقات عسكرية وأمنية في جسد الكيانات الأخرى عبر وضع قوى تكون امتدادا لها ومعرقلا لنشوء وحدة داخل البلد المعني.
هكذا، فعلت إيران في لبنان منذ عقود، وهكذا فعلت في العراق بعيد الغزو الأمريكي عام 2003، وهذا ما فعلته في سوريا ثم في اليمن.
إن اختيارها للأقليات الشيعية أو العلوية في هذه الدول لدعمها، يؤكد أن إيران تمتلك رؤية طائفية للأهداف المراد تحقيقها.
وإذا ما أجرينا مقارنة بسيطة بين الاستراتيجية الإيرانية والاستراتيجية التركية، سنجد أن الأخيرة، وخصوصا منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، تعتمد المقاربة الدبلوماسية لحل المشاكل، وهي الاستراتيجية التي حملت اسم "تصفير المشكلات"، في حين لا يبدو أن إيران قادرة على فعل ذلك، طالما أن السياسة لديها هي تعبير طائفي في عمقه، ويصح فيها ما قاله المفكر محمد عابد الجابري، من أن السياسة في معظم العالم الإسلامي هي إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني والطائفي والمذهبي، بمعنى أنه لا توجد ظاهرة سياسية أو سلوك سياسي محض، فما يوجد هو سلوك سياسي في الظاهر، لكن محركه طائفي ومذهبي وإثني.
وبغض النظر عن الأسباب التي كانت وراء عملية التسريب، سواء أكانت لأغراض انتخابية أو من أجل تدمير مستقبل ظريف السياسي، فإنها أكدت وأظهرت الهيمنة العسكرية الدينية على العمل السياسي.
*كاتب وإعلامي سوري