هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يشهد حي الشيخ جراح في القدس المحتلة محاولات
إسرائيلية متصاعدة لانتزاع منازله من سكانه الفلسطينيين، ما تسبب بتوتر شديد في
عموم المدينة والأراضي الفلسطينية.
ويزعم المستوطنون، وتحديدا لجنة طائفة
السفارديم، ولجنة كنيست إسرائيل (لجنة اليهود الأشكناز)، أنهم يمتلكون 19
دنما من أراضي الحيّ منذ عام 1885، وبأنهم سلموا وثائق تثبت ذلك لسلطات الاحتلال
عام 1972، وحصلوا على سندات ملكية، وذلك بموجب قانون أقره الكنيست عام 1970، يقضي
بـ"إعادة الأراضي التي كانت بملكية يهودية قبل عام 1948 إلى أصحابها"
المزعومين.
والمشهد في "الشيخ جراح" نسخة لما يتكرر
في عموم القدس والأراضي الفلسطينية منذ بدء قدوم المستوطنين اليهود في القرن التاسع عشر، ويختزل قصة قيام "إسرائيل"، وفق تأكيد المؤرخ
التركي المختص بالأرشيف العثماني المتعلق بفلسطين، عمر تللي أوغلو.
وفي حديث لـ"عربي21"، أوضح "تللي
أوغلو" أن المستوطنين اليهود الذين توافدوا على فلسطين منذ القرن التاسع عشر مارسوا منذ ذلك الحين أساليب غير قانونية، من تزوير ورشوة
وابتزاز، ليتمكنوا من السيطرة أراض كانت التشريعات العثمانية تمنعهم من امتلاكها،
وصولا إلى إقدامهم على تشريد أهاليها واستخدامها منطلقا لعمليات عصاباتهم.
تللي أوغلو، المتخصص بتاريخ الهجرة اليهودية إلى فلسطين والصهيونية في الفترة بين 1880 و1914؛ نفى بشدّة صدقية رواية المستوطنين لملكيتهم أراضي الشيخ جراح منذ عام 1885.
وقال: "هذا ليس ممكن.. هل
يستطيعون إبراز طابو عثماني يثبت ذلك؟"، مؤكدا أن الأوراق التي يزعم
المستوطنون أنهم قدموها لسلطات الاحتلال عام 1972 "مزورة"، هذا إن وُجدت
أصلا.
وأوضح تللي أوغلو أن الحالات التي تم فيها
بيع أراض لوافدين يهود، خلال القرن التاسع عشر، موثقة في الأرشيف العثماني، كما هو
حال جميع سندات الملكية المتعلقة بكل فلسطين.
ومما منح حالات بيع الأراضي لليهود وقعا خاصا
هو إصدار السلطان عبد الحميد (1876- 1909) عدة قرارات بمنعهم من التملك في فلسطين، وخاصة في القدس، فضلا عن منع إقامتهم فيها،
ما دفعهم إلى سلك طرق مختلفة لتحقيق ذلك، شمل بعضها تدخل المحاكم وسفراء الدول الكبرى
والمعاهدات الدولية، إلى جانب حالات لعب فيها فساد بعض المسؤولين العثمانيين ووسطاء عرب دورا.
واطلعت "عربي21" على عدة وثائق من
الأرشيف العثماني، تظهر اهتمام الأستانة بمراقبة الأوضاع في فلسطين عن كثب، ورصد
كل تحرك أجنبي أو "غير مسلم" على أراضيها، وذلك منذ استقرار حكمها في
المنطقة بالقرن السادس عشر.
وتظهر وثيقة بتاريخ 13 كانون
الأول/ ديسمبر 1857، أي إبان حكم السلطان عبد المجيد الأول، مرسلة إلى متصرفية
القدس الشريف ودائرة الأوقاف، تأمر باتخاذ إجراءات لمنع بيع الأراضي للأجانب في
فلسطين بطرق غير مشروعة، وتعيين مسؤول للرقابة وتسجيل الأملاك في القدس.
وعام 1880، رفضت
الدولة العثمانية مقترحا بإنشاء كيان بحكم ذاتي للمهاجرين اليهود من أوروبا في
سنجق البلقاء (الأردن حاليا).
وتظهر وثيقة أخرى،
مؤرخة بـ4 نيسان/ أبريل 1881، تقدم مسؤول الإدارة السياسية في السفارة النمساوية لدى إسطنبول،
فيليب نيولنسكي، بعرض على السلطان عبد الحميد، نيابة عن القوى الأوروبية، يقضي بأن
تمنح الدولة العثمانية بعض الأراضي لليهود في فلسطين، مقابل أن تتلقى الدولة
العثمانية، التي كانت تعيش أزمات معقدة، مساعدات، و"دعما معنويا" من
الصحف التي يملكها رجال الأعمال اليهود في أوروبا، وهو ما قابله السلطان برفض شديد.
وبلغ الحذر بالدولة العثمانية
بشأن الأراضي أن أصدرت قرارا في 29 كانون الثاني/ يناير 1881، يقضي بمنع رهن
الأراضي في عموم منطقة سوريا للبنوك والتجار مقابل قروض بفوائد مرتفعة، وذلك بعد تقارير
عن مساعي بنك بريطاني للسيطرة على أراضي عامة بشكل تدريجي.
ويوضح تللي أوغلو في هذا
السياق بالقول: "ملخص دراستي في الأرشيف العثماني أن أغلب أراضي فلسطين وبلاد
الشام عموما كانت إما أميرية أو وقفية، وأغلب العقود لم تكن بيعا بل فراغا، بمعنى
أنك لا تملك الأرض بل تنتفع منها وتبيع حق الانتفاع لا ملكية الأرض".
ولم يتوقف الأمر عند منع تملك اليهود في فلسطين عموما وبالقدس خصوصا، إذ كانت اللوائح العثمانية تمنع إقامة الزوار اليهود في القدس لأكثر من شهر، وأجهضت العديد من محاولات الهجرة بهدف الإقامة في المدينة، وهو ما يؤكد زيف العديد من المزاعم الإسرائيلية سواء في حي الشيخ جراح أو غيره.
(وثيقة حول منع اليهود من الإقامة في القدس ومنع الزوار من البقاء في المدينة أكثر من شهر)
لكن تللي أوغلو أكد في الوقت ذاته أن
تسرب الأراضي إلى اليهود بدأ بالفعل في تلك الفترة، بالنظر إلى الضغوط الكبيرة
التي كانت تواجهها الدولة العثمانية سواء من القوى الأوروبية أو البنوك ورجال
الأعمال.
وأضاف أن السلطان عبد الحميد،
الذي أرسل عشرات البرقيات تحذيرا وتهديدا لعمّاله في فلسطين من بيع الأراضي
لليهود، إلا أنه أرسل كذلك برقيات يطلب فيها السماح بنقل بعض الملكيات، جراء ضغوط
مالية أو سياسية شديدة.
اقرأ أيضا: عائلات الشيخ جراح ترفض أي تسوية مع انتهاء مهلة الاحتلال
وكانت عائلة "روتشيلد"
أبرز من تمكنوا من امتلاك مساحات واسعة في فلسطين بعد عام 1882، بحسب المؤرخ
التركي.
وحاولت السلطات العثمانية وضع
الكثير من العقبات أمام تسرب أراضي فلسطين، بما في ذلك وضع بعضها بملكية سلطانية
مباشرة، مثل منطقة بيسان، أو من خلال تشريعات تمنع غير المسلمين من التملك تارة،
واليهود تحديدا تارة أخرى، أو "الأجانب"، أي من لا يحملون الجنسية
العثمانية.
وبالعودة إلى الأرشيف، فقد
اطلعت "عربي21" في هذا الإطار على وثيقة بتاريخ 22 تموز/ يوليو 1886،
تفيد بفتح تحقيق مع مسؤولين تساهلوا مع استيطان مهاجرين يهود في حيفا، ومنحهم
الجنسية العثمانية.
ومن اللافت في هذه الوثيقة،
وغيرها من الوثائق، الدقة في نقل المعلومات، حيث يتم الإخبار عن عدد الأشخاص الذين
يدور الحديث عنهم، وتحديد المكان بدقة، ما لا يدع مجالا للجدل بشأن حقيقة تاريخ أي
بقعة وأي تحرك استيطاني في عموم فلسطين، فضلا عن مدينة القدس ذات المكانة الخاصة.
وعندما اتسعت عمليات الاستيلاء على الأراضي على سواحل غزة وحيفا، لإنشاء قرى يهودية، تحركت قوة عسكرية عثمانية لوقف تلك الأنشطة بالقوة، وذلك بحسب وثيقة بتاريخ 27 أيلول/ سبتمبر 1891.
كما يبرز بوضوح إلصاق أوصاف "غير المشروعية" على جميع أنشطة المستوطين في فلسطين، باستثناء تلك التي يصدر بشأنها إذن خاص من السلطان.
ويقول المؤرخ "تللي
أوغلو": "يعتقد البعض أن السلطان عبد الحميد منع بيع شبر من فلسطين،
وهذا فيه مبالغة وغير صحيح، لكنه في الوقت ذاته تمكن من الصمود على مدار سنوات
حكمة الـ30، وتم الانقلاب عليه في النهاية دون أن يتمكن رجال الأعمال اليهود
والحكومات الأوروبية من تحقيق ما أرادوه، وجعل من الممكن رصد تلك التحركات التي
حدثت آنذاك".
(كتاب المؤرخ التركي عمر تللي أوغلو: الهجرة اليهودية إلى فلسطين والصهيونية 1880- 1914)
وأكد تللي أوغلو أن الأمر لا
يتعلق ببيع الفلسطينيين لأراضيهم، بقدر ما يتعلق بفقدان الدولة العثمانية توازنها
الاقتصادي والسياسي وحاجتها للاقتراض من بنوك يملكها يهود وخضوعها لمعاهدات تفرض
عليها السماح لمواطني هذه الدولة أو تلك بتملك الأراضي.
كما أشار إلى أن مسؤولين
عثمانيين تورطوا في عمليات بيع، فضلا عن عوائل معروفة، مثل "سرسق"، المسيحية اللبنانية، بحسب تللي أوغلو، الذين عملوا كوسطاء لدى "روتشيلد"
للتحايل على القوانين العثمانية والملّاك الفلسطينيين وتسهيل انتقال الأراضي للعائلة
اليهودية الثرية، مشددا على وجود مئات الوثائق التي تثبت ذلك في الأرشيف العثماني.
وعقب الانقلاب على السلطان
عبد الحميد، حاولت حكومة الاتحاد والترقي، بحسب تللي أوغلو، بيع بعض الأراضي
لليهود، وخاصة منطقة بيسان التي سبقت الإشارة لها.
وقال المؤرخ التركي:
"وقف ممثل القدس في مجلس المبعوثان ضد ذلك، وأثار الأمر في المجلس، كما نشط
قائممقام الناصرة آنذاك، شكري العسلي، بشكل خاص في مقاومة التوسع اليهودي، حتى تم
إفشال مشروع بيع أراضي بيسان".
وختم تللي أوغلو بالتأكيد
مجددا على بطلان المزاعم الإسرائيلية، خاصة وأن التوغل اليهودي في فلسطين عامة
والقدس بشكل خاص كان قيد الرصد منذ بداياته ومحاربا من قبل العثمانيين، مشيرا إلى
عرض تركيا على السلطة الفلسطينية للاستفادة من الأرشيف العثماني كما تشاء.