(1)
تسارع الأحداث في بلادنا دفعنا لإرجاء مراجعة ما حدث يوم
إفطار بدر في ١٧ رمضان ١٤٤٢ه (٢٩ نيسان/ أبريل ٢٠٢١م)، حيث ألقت أجهزة الحكومة
السودانية بالقنابل المسيلة للدموع على جموع الصائمين
قبل الإفطار بدقائق، واستمرت بإلقاء قنابل الغاز عليهم بينما الصفوف متراصة للصلاة. وقد قرأت تحليلات مستبصرة ولكن الحدث يستلزم المزيد.
وأولى النقاط: إن تيار الشباب الإسلامي والوطني تجاوز حالة أشواق وفكرة الوحدة إلى تأسيس منصة فاعلة، فهذا النشاط يعبر عن "عقل واحد"، بالتخطيط والتدابير والتنفيذ مع خيارات وبدائل، وحين تم غمر الساحة الخضراء بالمياه وخلال دقائق تم تفعيل الخطة (ب). والإشارة المهمة أن هذا الإرباك لم يشتت الجمع أو يقلل الحشد أو تضطرب المواقف، وجرى الأمر بسلاسة ونسق، وحتى المعينات تم توفيرها (البسط، الإفطار، المياه)، مع قيام الإفطار في عدد من الولايات والمحليات والمناطق، وهذه نقطة مهمة وجديرة بالتقدير والإشادة.
والنقطة الثانية: تتمثل في التمايز في المواقف، فقد اختبر التيار الشبابي ومن خلال منشط ديني واجتماعي، كل شعارات الحكومة الانتقالية وحاضنتها السياسية، فلم تُرفع لافتة حزبية أو هتاف سياسي، بل استبقت بعض أطراف الحكومة وأجهزتها الإفطار والتعبير عن الرأي والموقف، وكان هذا محل انتقاد عنيف من أطراف كثيرة، فهذا تصرف لا يليق بحكومة ترفع شعار الحرية والديمقراطية. وفي الوقت ذاته فإن التيار الشبابي ومع كثرة حشده لم يلق حجرا أو يحرق مركبة حكومية أو يسئ للشرطة، وقد تم إلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع عليهم، وتعاملوا ببرود مع انفعال الأجهزة الحكومية.
والنقطة الثالثة: تمثلت في الثبات والتماسك، ورغم وحشية التعامل الرسمي، فإن الحشود حافظت على مواقفها، وتراصت الصفوف للصلاة وقنابل الغاز المسيل للدموع تتناثر حولهم، كأنهم استدعوا قول عكير الدامر:
كان إيدينا من المسك تتملخ..
السما ينتكئ وجلد النمل يتسلخ..
وكما يقال، فإن القلوب ذات العزم لا ترخي رسن القياد في المنعطفات الخطيرة..
(2)
وفي جانب آخر، فإن ثمة نقاط مهمة في مواقف الحكومة الانتقالية:
أولها: غياب الحكومة وأجهزتها كمؤسسات رسمية ذات مهام في حفظ الأمن والاستقرار، وتحولها إلى واجهات
معبرة عن موقف سياسي. ومن خلال الانتقاد الموجه من بعض أطراف الحكومة لتصرفات أجهزتها، تتكشف مظاهر اختطاف الموقف الرسمي لصالح أحزاب، وقد تمت إشارات وتسريبات بأن المجلس السيادي قد طالب بتوضيحات حول الحدث.
وبين يدي هذه الظاهرة، فإنني أشير إلى أن الجهات الرسمية الحكومية لم تتصدر المشهد، ونعني هنا وزارة الداخلية (الشرطة) وجهاز الأمن والمخابرات العامة، وحتى مجلس الأمن والدفاع، ولم يصدر حتى بيان رسمي وتم الاكتفاء ببيان لجنة التمكين. وهذا أمر خطير سيؤدي للاستقطاب السياسي والتجاذبات وخدمة أجندة حزبية، وسيخلق فتنة حين تتحول أجهزة الدولة لإسناد سياسي لأحزاب سياسية دون تفويض.
ثانيها: وجود مؤشرات لأجندة خفية، ربما لاستدراج
الإسلاميين لمعركة داخلية، وهذا تفكير عاطل وفطير ولا يخلو من خطورة،
فالتيار الإسلامي والوطني تجنب وخلال عامين أي إخلال بالأمن وهذا دأبه، ولعل ذلك ما دفع حواضن الحكومة لاختراع "الخلية الإرهابية" في إفطار الرابع من رمضان و"هيئة العمليات" في ١٧ رمضان، وهذه رسالة مقصودة ومن العجب أن العقلاء في هذه الحواضن لم يتفطنوا لهذا الأمر..
ثالثها: سقوط رهان فاعلية تأثير الشركاء الجدد، ومع أن وزير الصناعة إبراهيم الشيخ (حزب المؤتمر السوداني) أبدى عدم رضاه عن تعامل أطراف الحكومة، فإن القادمين الجدد، ونخص هنا حركة العدل والمساواة (د. جبريل إبراهيم) وحركة تحرير السودان (مناوي) وبقية الفصائل السياسية؛ لم يبدر منها أي تعليق، مما يشير للرضا بما جرى.
أما تغريدات ومواقف ياسر عرمان، فإن مواقفه لا تخرج عن خدمة أجندة الحزب الشيوعي السوداني واليسار عموما، وهذا أمر مفهوم، وهذه قاعدته للمستقبل.
(3)
هناك نقاط مهمة في سياق الحدث:
أولاها للتيار الإسلامي، ومع حالة الغضب الشعبي العام وفشل الحكومة في أداء وظائفها، من الضروري تبني أجندة المواطن. إن أخطر ما يواجه هذا الحراك أن يتحول المواطن لدور "المتفرج"، ولذلك من المهم العودة للجمهور وبروز قيادات شعبية مطلبية، وتستصحب هم المواطن اليومي وتحريك الشارع في هذا الاتجاه. وهذا أمر يتطلب الصبر والتأني والقدرة القيادية، وللإسلاميين خيارات واسعة، ودون ذلك فإن هذه المواقف ستتحول لمنتوج نخبوي لا أكثر.. ومما أثار انتباهي قيام الإفطار في أغلب الولايات والمحليات والمناطق، فهذا مدعاة للاقتراب من الجمهور، ومحط التنافس.
ثانيها: إن أحزاب قوى الحرية التي غادرت الحكومة عادت من طرف خفي لاستخدام الأجهزة الحكومية في موقف سياسي (الأجهزة الأمنية، والأجهزة العدلية، وأجهزة الإعلام)، وهذا مأزق كبير ونتائجه غير محمودة، خاصة إذا استصحبنا تاريخ بعض الأحزاب السياسية، فلم يقُد ذلك لاستقرار البلاد..
وثالثها: غياب المنظمات الحقوقية المحلية والأممية وتقارير المجموعات، ومواقف العقلاء من الوطنيين، سوى آراء محدودة وذات سقف محدود..
ورابعها: أعتقد أن تبني شعارات إسلامية أزعج الحكومة، فقد أسرع وزير المالية د. جبريل إبراهيم (رئيس حركة العدل والمساواة) إلى طريقة صوفية للإعلان عن رفضه أي تشريعات تمس الدين، وتبعه رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك بإفطار في ضيافة الشيخ الياقوت للحديث عن سماحة الدين. وتحدث الفريق أول محمد حمدان دقلو في إفطار مجموعة المبادرة، ودافع عن اتفاقية السلام وعدم المساس بأمور الدين..
الجوهر والخلاصة أن الشواهد تشير إلى أن بلادنا تعيش حالة "انسداد الأفق السياسي"، وهذا مأزق كبير..