(1)
كنت منذ قرأت رسائل كافكا لميلينيا في شوق لزيارة براغ، لذا في ٢٠١٨ قبل أن أقابل براغ، ابتعت مجموعة المؤلفات الكاملة لفرانز كافكا، في محاولة مني لتهيئة نفسي لمقابلته، مع أنني كنت قد قرأت معظم كتبه أيام الدراسة الجامعية. ما زلت أذكر "المسخ" التي قرأتها على طاولة قديمة مهترئة في زاوية من زوايا مكتبة الجامعة الأردنية. لم أحب كافكا حينها، ولهذا قرأت كتبه في المكتبة، ولم أحاول استضافتها في منزلي أبدا.
كل شيء عن براغ كان ليكون أسود سواد أدب كافكا لولا ميلينيا. في رسائله إلى ميلينيا عرفت رجلا آخر، حقيقيا وبروح مشعة. كان مزاج كافكا المتقلب في رسائله يذكرني بنفسي. لكن لم تكن يوما كتابة الرسائل بالنسبة لي بالسهولة التي وصفها كافكا في رسالة إلى ميلينيا، حيث اعتبر أن هذه السهولة هي التي جلبت الدمار إلى أرواح الناس.
إن كتابة الرسائل هي لحظات من تلاقي الأشباح، فهي استحضار لشبح المتلقي وشبح المرسل ليتجسدا في كلمات الرسالة. لكني أتفق معه في أن كاتب الرسالة يستطيع أن يميز الحقائق من خلال الذي يكتب له. ذلك اليهودي الذي يعيش في التشيك وتلك الألمانية، استطاعا أن يحولا هذه العقبات والاختلافات إلى نوع خاص من التوافق الروحي البعيد عن كل ما يحكم الأجساد. بالنسبة إلى كافكا، كانت (م) و(م) فقط هي التي تنير له العتمة. إن الرسائل بحد ذاتها لم تكن تمثل مرحلة من مراحل علاقتهما، بل كانت هي الحب بحد ذاته بينهما.
لكن كافكا كان قد عانى طويلا في حياته مع مرض السل وتجاربه العاطفية أيضا. وقد كتب مرة لميلينيا أن الرجل يعاني أكثر في تجاربه، لأنه صاحب القرار، ولم يقصد هنا أن المرأة لا تعاني، لكنها عادة ما تكون مغلوبة على أمرها وتتصرف وكأن الأمر محتوم عليها دون أن تكون طرفا فيه.
لقد حُمت حول براغ لعامين، تماما كما وصف كافكا حومه حول رسائل ميلينيا قبل أن يقرأها، مثل حوم الفراشات حول الضوء، ليحرق رأسه عددا من المرات، لأنه يوجد نوعان من الرسائل: الأول الذي يتشربها المرء كما الماء، والأخرى التي يبدو عليها الرهبة، ثم حين سافرت إلى براغ أخيرا، احترقت. كانت قبلها كل الكتابات تبدو لي عقيمة، تماما كعقم أمل كافكا في لقاء ميلينيا قبل الموت.
هو كان يعتبر أنه لا يستطيع أن يكتب عن شيء إلا يخصه هو وميلينيا، لكن في اللحظة التي وصلت فيها براغ نفضت عني آخر ذرات كافكا الكئيب. لأستقبل كافكا الذي قال مرة لميلينيا: "لا تستهيني بالقوى التي يعطيني إياها قربك". كذلك حالي حالما اقتربت من براغ، ارتعش قلبي حال لقائي بنهر فولتافا المتلوي، لأمشي معه الهوينا. اشتهيت أن أمشط شوارعها شارعا شارعا، زقاقا زقاقا، لأعيش الدهشة في كل التفاصيل، حتى أصل جسر تشارلز وقت الغروب لأودع الشمس هناك وأنا جالسة على أحد أسواره، نور الشمس وقت الغروب كما الوهج ينير الأرض، ويجذبني إليه، لكنه لا يجذب أولئك المنعكفين على أنفسهم، إنما من يستطيعون الرؤية. يهدأ العقل بمجرد
الكتابة، فإن شعوري بالعدمية وعبث الوجود، لم ينتشلني منه سوى الكتابة، كوتد أدك به الأرض لأثبت نفسي بدل الضياع في مجرى الزمن. فأنا أرغب بالنظر في عين الشمس لأريها قوة إرادتي، لكنني سأعمى بعدها، فلا أجد سوى مرايا الروح.
كافكا الذي عرفته متأخرا في رسائله، لا يمت لكافكا "المسخ" والمحاكمة بأدنى صلة. في رسائله مكنني من لمس روحه التي كانت مكبلة. إبداعه
الأدبي لربما كان نتيجة لكبته؛ لأنه طريق الإياب من مملكة الخيال إلى عالم الواقع، هو الفن ومنه الأدب. والفنان هو في نوعه انطوائي أيضا، إنه إنسان تحفزه اندفاعات وحاجات غريزية بالغة القوة، فيصبو إلى الفوز بالتكريم والعظمة والغنى والمجد وحب النساء كما يقول فرويد. غير أنه تعوزه الوسائل لبلوغ هذا الإشباع، لذا يشيح - مثله مثل أي إنسان لم تلب رغباته - عن الواقع الفعلي، ويركز كل اهتمامه، وكل الليبيدو التي لديه أيضا، على الرغبات التي تخلقها حياته الخيالية، مما قد يقوده بسهولة إلى العصاب.
ولا بد أن تتوفر له ظروف مواتية كثيرة كيلا يؤول تطوره إلى هذه العاقبة، ومعلوم كم هو كثير عدد الفنانين الذين يعانون تعطلا جزئيا في نشاطهم من جراء إصابتهم بعصاب. ومن المحتمل أن تكون جبلّتهم منطوية على قابلية عظيمة للتسامي، وعلى بعض التراخي في المكبوتات التي من شأنها أن تقرر مصير الصراع.
والحال أن الفنان يعرف كيف يهتدي من جديد إلى طريق الواقع، ومملكة الحياة الوسيطة تحظى بمحاباة البشرية قاطبة، وكل من عانى حرمانا من شيء ما طرق بابها طلبا للتعويض والعزاء. غير أن عامة الناس لا ينهلون من ينابيع الخيال سوى لذة محدودة، فالطابع الصارم لكبتهم يرغمهم على الاكتفاء بأحلام يقظة ضئيلة العدد، هذا إذا تأتى لهم أن يعوها. لكن من كان من الناس فنانا حقيقيا فإن إمكانيات أكثر بكثير تتوفر له، فهو يعرف أولا كيف يلبس أحلام يقظته شكلا يحررها من طابعها الشخصي الذي قد يثير نفور الغير، فتصبح على هذا النحو مصدر متعة للآخرين. كما إنه يعرف كيف يجملها، بحيث يخفي عن الأنظار أصلها المشبوه.
ثم إنه يملك، فضلا عن ذلك، مقدرة عجيبة على صياغة مواد معينة ليجعل منها صورة أمينة عن التصور الذي يعتمل في خياله، وعلى ربط هذا التصور الصادر عن خياله اللاشعوري بمقدار كاف من المتعة، ليموه أو ليلغي الكبت بصورة مؤقتة على الأقل. فإذا ما أفلح في تحقيق هذا كله، وفّر للآخرين وسيلة لينهلوا بدورهم التفريج والعزاء من ينابيع المتعة في لا شعورهم بالذات، بعد أن أضحت منيعة عزيزة المنال، وبذلك يظفر بعرفانهم وإعجابهم، ويكون في نهاية المطاف قد ظفر عن طريق خياله بما لم يوجد من قبل إلا في خياله: التكريم والعظمة وحب النساء.
أدب كافكا وإبداعه كانا اللذين أوصلاه لحب ميلينيا، ولم يذق شخصه الحقيقي طعم هذا الحب. لهذا يجتهد الأدباء في البحث عن حب حقيقي يتحول إلى حب مستحيل، حسبهم منه تلك الشعلة الروحية، لتكون زادا لأدبهم وإذكاء لإبداعهم. وهم عادة ما يموتون عظماء، لكن محرومين.
(2)
ميلينيا الألمانية كانت وطن كافكا اليهودي، أما كونديرا التشيكي الأصل فإنني بحثت عنه في موطنه: براغ، في الشوارع، والمكتبات، والمتاحف، فلم أجده. وجدت كافكا أينما أدرت رأسي: وجدته في مسقط رأسه بجوار كنيسة سانت نيكولاس في المدينة القديمة على حافة حي غيتو اليهودي، وحتى بعد أن احترق المنزل، ولم يتبق منه سوى مدخله، فإن الحكومة لم تنس أن تكتب على اللوحة بجانب منزله: هنا ولد فرانز كافكا في ٣ تموز/ يوليو ١٨٨٣. ثم تجد مقهى كافكا على مستوى الشارع، وعند مرورك على الخط الذهبي تجد المنزل رقم ٢٢ الذي عاش فيه لفترة قصيرة مع شقيقته، وكان قد كتب فيه بعضا من أفضل أعماله في كوخ حجري مدسوس بعيدا داخل جدران القلعة، لتصل إلى متحف كافكا الذي يكشف عن حياته وأعماله مع عروض سمعية وبصرية.
ثم تذهب إلى المعبد اليهودي الذي عقدت على جدرانه وصية كافكا على الحائط الغربي من القاعة الرئيسية في صندوق زجاجي، مثل الألواح الحجرية التي تلقى موسى عليها الوصايا العشر. المصابيح الكهربائية الصغيرة داخل الصندوق الزجاجي تضيء في ذكرى وفاة شخص ما، وأحد هذه الأضواء مكرسة لفرانز كافكا، ثم النصب التذكاري المفضل لكافكا في ساحة البلدة القديمة رقم ١٧ وهو المنزل السابق لبيرنا فانتا، التي كانت تدير صالونا أسبوعيا في قاعة الرسم الخاصة بها. وهناك لوحة على باب المنزل تقول: هنا في هذا الصالون للأستاذة بيرتا فانتا، عزف على الكمان ألبرت أينشتين، مؤسس نظرية النسبية مع صديقيه الكاتبين المشهورين: فرانز كافكا وماكس برود.
ثم مقهى اللوفر، الذي كان يجلس فيه العديد من الكتاب والعلماء أمثال أينشتاين وكافكا والذي يقدم أفضل فطيرة تفاح قد تتذوقها يوما ما، والذي صدف فيه أن كان النادل يهوديا حين ذهبت لتناول الفطور فيه مع زوجي، ليستقبلنا بحفاوة غريبة ولزجة وهو يقول أننا أولاد عمه حين قلنا له أننا من فلسطين. وأخيرا المقبرة اليهودية التي تضم قبر كافكا جنبا إلى جنب مع والديه.
أما ميلان كونديرا، الكاتب الذي كان سياسيا متمردا، الفرنسي حاليا والتشيكي الأصل والمولود لعائلة من الطبقة الوسطى في تشيكوسلوفاكيا وكان والده عالماً في الموسيقى وعازف بيانو، والذي اشتهر بكتاباته الساخرة والسياسية ذات الأبعاد الفلسفية، فلم أجده في براغ. بحثت عنه طويلا، وظننت أني وجدته في رف منزو في مكتبة صغيرة داخل زقاق منسي، لأسألها عن كتب ميلان كونديرا لتدلني على مجموعة منها قديمة، بينما كافكا يتصدر الرفوف الرئيسية. فهل كان كونديرا كائنا خفيفا لا تحتمل خفته لدرجة أنه اختفى من أي مشهد في وطنه؟
ثم وجدته أخيرا في شارع بين ميدان وينسيسلاس والمسرح الوطني، في لوحة برونزية صغيرة ذات الأيادي والأصابع الرمزية للطلاب التشيكيين الثائرين مزينة بالورود ، وجدت كونديرا في هذا النصب التذكاري لواحدة من أهم اللحظات في تاريخ التشيك والتشيكوسلوفاكيا، وهي بداية الثورة المخملية أو الصامتة.
في ١٧ تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٨٩ (يوم الطلاب الدوليين) قامت مظاهرة طلابية في براغ، احتفالا بالذكرى السنوية الخمسين لمظاهرة طلابية كانت قد قامت ضد الاجتياح النازي لجامعة براغ عام ١٩٣٩، وقد تم قمعها بعنف مما أدى إلى اعتقال ١٢٠٠ طالب وقتل 90 في هذه الذكرى قمعت شرطة مكافحة الشغب مظاهرة طلابية جديدة ما أدى إلى مقتل طالب واحد، فكانت بداية سلسلة من المظاهرات عام ١٩٨٨ من ١٧ تشرين الثاني/ نوفمبر إلى نهاية ديسمبر وتحولت إلى مظاهرة مناهضة للشيوعية.
في ٢٠ تشرين الثاني/ نوفمبر، ارتفع عدد المتظاهرين الذين تجمعوا في براغ من 200 ألف في اليوم السابق إلى ما يقدر بنحو 500 ألف، استقالت على إثرها القيادة العليا للحزب الشيوعي برمته، بما في ذلك الأمين العام ميلوش جاكيش. وفي ٢٤ تشرين الثاني/ نوفمبر تم تنظيم إضراب عام لمدة ساعتين شارك فيه جميع مواطني تشيكوسلوفاكيا. مثلت هذه الثورة المخملية انتقالًا غير عنيف للسلطة، فقد قامت المظاهرات الشعبية ضد حكومة الحزب الواحد. ضم الحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا الطلاب والمعارضين الأكبر سناً، وكانت النتيجة هي نهاية ٤١ عاما من حكم الحزب الواحد في تشيكوسلوفاكيا، والتفكيك اللاحق للاقتصاد الموجه والتحويل إلى جمهورية برلمانية.
يقول كونديرا عن الثورة: "تقترن الثورة بالشباب، فبماذا يمكن أن تَعِد الثورة الراشدين؟ قد تَعد بعضهم بزوال الحظوة، بينما تعد آخرين بالامتيازات، لكنها ليست امتيازات ذات بال، لأنّها لا تتعلّق إلا بالجانب الأكثر بؤساً من الحياة. فامتيازاتها تكون مقرونة بالشّك والعمل المضني وانقلاب عادات الحياة، أما الشباب فأوفر حظاً: فهو غير مثقل بالأخطاء، والثورة تستطيع أن تشمله بحمايتها تماماً. ثم إن الشّك الذي يطبع فترات الثورة يشكّل بالنسبة إلى الشباب، مزيّة: لأن عالم الآباء هو الذي يتسرب إليه الشك: آه! ما أروع أن تَلِج عالم الراشدين حينما تنهار معاقلهم".
لكن يبدو أن كونديرا لم يرغب بتكرار نفسه، لأنه يعتبر أن الوقت الإنساني لا يسير في شكل دائري بل يتقدم في خط مستقيم. من هنا، لا يمكن للإنسان أن يكون سعيداً لأن السعادة رغبة في التكرار. فبعد ٩١ عاما من عمره، يعتبر كونديرا آخر الكبار في الأدب العالمي خلال النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع الألفية الجديدة. وقد أصبح فرنسي الجنسية بعد أن تم نفيه وحرمانه من جنسيته التشيكية ومنع مؤلفاته بسبب نشاطه السياسي منذ ٤٠ عاما، ليقوم رئيس وزراء التشيك في العام الماضي بعرض إعادة الجنسية التشيكية له ولزوجته اعترافا بفضله الأدبي، والساخر أنه من ضمن الجوائز العديدة التي نالها، كانت أرفع جائزة أدبية تشيكية المسماة "جائزة فرانز كافكا" بعد ٤٠ عاما في المنفى، تلك الجائزة المسماة على اسم الأديب فراز كافكا، اليهودي الأصل الألماني اللغة، الذي أينما تذهب في براغ تجد أثرا له من تماثيل وعلامات ومتاحف، دون أدنى أثر لكونديرا الوطني التشيكي الأصل، لتتحول وطنية كونديرا إلى تنكر للوطن بأن تصبح الكتابة وطنا له.
وحتى لو أصبحت لغته في الكتابة فرنسية، فإن الكتابة، والكتابة وحدها هي مركز التفكير لديه. فالمركزية الشعوريَّة هي الكتابة أو ربمّا هي نسيان كلّ أمر حياتي والخوض في غمار التدوين لأجل خلاصٍ ما. هذه الخلاصة كانت هدف كافكا من الكتابة مبتدأ. فواعجبي.