هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من شارع ضيق في حي من أحياء الجوفة شرق عمان، تبدأ الكاتبة والصحفية لينا شنك رحلتها في الكشف عن وجه عمّان المختبئ في قاع مظلم.
تعرفت الكاتبة على هذا الحي عن قرب قبل أربع سنوات، بعد حادثة انهيار مبان سكنية في المنطقة تركتها عائمة في ظروف غير إنسانية.
تسرد لينا في كتابها "قاع المدينة" قصص المهمشين والمنسيين في محاولة لنقلها إلى متن الرواية الأردنية والإنسانية.
تهدي الكاتبة أبطال تلك القصص صوتها، وتسرد قصصهم بلا وساطة، بصيغة المتكلم، بعد أن شاركتهم تفاصيل حياتهم طيلة عام وعايشت تطوراتها.
تسمعنا هذه القصص أنين مدينة تبحث عن العدل والمساواة وتسمعنا أصواتاً تلهث وراء لقمة العيش وأنفاساً تقطعت من ظلم المدينة.
في "قاع المدينة"، تستطيع أن ترى الفقر وتشتم رائحته النتنة، وتكون شاهداً على جرائمه اللا-إنسانية. يفاجؤنا الكتاب في البداية بقصة عائلة من سبعة أفراد عليها أن تجد كفاف يومها دون أن تُذل لأحد أو تفقد بيتها الذي كاد أن يسقط.
لا تتحول العائلة إلى التسول ولكن الفقر يجبرها على الكذب لتحصل على قرض يعينها وبيع أصواتها في الانتخابات لأجل الحصول على الطعام.
تخضع العائلة لإجراءات معقدة للحصول على معونة وطنية بعد إصابة الأب بتليف الرئة، ولكن يختنق الأب قبل أن تصل معونة كان من المفترض أن تعينهم على دفع 12 دينارا للأوكسجين!
هذه قصص مدينة تقضي على أنفاس الضعفاء وأحلامهم الصغيرة والكبيرة، وتولّد في المقابل عالما يتشابه عليه دور الضحية والمجرم.
تفرض مدينة الفقراء قوانين أخرى للعدل لا تستثني صفوف المدارس، ويتحول العالم إلى غابة لا يضيّع فيها القوي أي فرصة للانقضاض على الضعيف.
هذه هي القاعدة المعتمدة لدى أبي عناد "وحش وسط البلد" الذي يفقد حبيبة تلو الأخرى وتضيع فرصه بالزواج والاستقرار لتورطه في المشاكل وانتهائه بالسجون.
فالضعف من المحرمات وسط عالم يختنق فقراً. في ذلك العالم، تضيع الأحلام وتقسو النفوس وتتحول لحظة الإفراج عن السجين إلى مواجهة غير عادلة بين عالم لا يعترف به وآخر ألفه وأتقن قواعده.
يولّد الظلم تطبيقات متعددة لتمييز الناس حسب درجة الضعف والقوة، وتشارك حتى لون البشرة في صنع هذا التمييز.
كذلك يقع الحكم على أحد أبطال القصص الستة، الشاب السوداني، الهارب من حرب ومعسكر للنازحين في دارفور، لينتهي به الطريق في الجوفة.
خيانة الحظ ربما. يعيش هذا الشاب -كما يفعل كثير من الوافدين العاملين- تحت سلسلة من التهديدات والمضايقات اليومية يكون أهونها الأذى اللفظي.
"ماني عربي… لكن إنسان" هي الرسالة البسيطة التي يوجهها الشاب، وكل من وقع تحت حسابات عنصرية كاللغة أو العرق دون النظر إلى الإنسان.
يسمعنا "قاع المدينة" أصوات الضعفاء والمقهورين المهمشين في المجتمع، ولذلك سنجد مكاناً خاصاً للنساء بعد أن غادرهن -أو غدر بهن- الحظ العالق في عوامل اقتصادية واجتماعية أو حتى قانونية.
لا يأتي الحظ بالتمني، هكذا تقول قصتها، ولا بكلام قارئ الفأل الذي أطل عليها وبشرها بالزواج إن هي قصت شعرها.
ورغم ثبوت صدقه -ولو كذب- إلا أن طالعها لم يخبرها بأن الزواج سيكون النهاية لخمس وعشرين سنة من ظلم العائلة وقسوتها.
هذه قصة امرأة تشبه كثيرا من قصص النساء اللواتي يقضين عمرهن في خدمة ذكور العائلة دون الحصول على حقوق بسيطة كإتمام تعليمهن.
ولكن حظ هذه الفتاة التي تقبل الزواج من رجل مسنّ للهروب من الظلم، يصطدم -كما يحدث أيضاً مع كثيرات- بواقع أكثر ظلماً ومرارة. والبخت الذي جاء مع جديلتها المبتورة هو نفسه الذي يجبرها بعد زمن على بيعها لتحصيل ستين دينارا لقضاء حاجة.
في قاع المدينة، لا يكاد الحظ يمر من طريقهن الغارقة بالأحلام المؤجلة إلا ويقدّم معه وهماً سرعان ما تستبدله أحكام الواقع. تماماً كما كان الترتر أكثر واقعية من حلم "أم ترتر في الجوفة" التي تأملت في صغرها أن تصبح كاتبة مرموقة.
"لم أعد الكاتبة التي كنت في بداية السبعينيات، ولا الثائرة والناشطة السياسية التي أصبحت في نهايتها. لم أعد الفتاة التي لا تهاب أحداً، وتجادل الجنود الذين يطوقون مدرستها فيما تحاول شق طريقها لتتظاهر..".
ولكن الظلم ينطق روح الثورة دائماً، ويجبر أم ترتر بعد سنوات على التظاهر بعدما حرم القانون أبناءها من الجنسية الأردنية فقط لزواجها من غير أردني.
وكما حرك الظلم أم ترتر ونساء غيرها، فإنه أشعل حراكاً شكله أبناء شعب واحد لسان حالهم يقول "كلنا يعيش في ضيق، كأننا نختنق في اليوم مئة مرة"، تحدثنا قصة "قاع المدينة" الأخيرة عن الحراك الشبابي الذي شارك فيه حي الطفايلة بدور مركزي.
هذا الحي، معلم جبل الجوفة الذي يخاف المرور منه حتى سائقو التكاسي، شكل تحديا للكاتبة بعدما اختارته وجهة لرحلتها الصحفية والأدبية.
كلمات وُجهت إليها مثل "شو بدك بحي الطفايلة؟ نصيحة لا تروحي". ولكن الكاتبة تؤصل للمشكلة وتؤكد أن الادعاء القائل بأن "المجرم يولد مجرماً" ما هو إلا غطاء ظالم لمجموعة من العوامل البنيوية التي شكلت هذا المشهد المعتم.
وهي بذلك تريد للقارئ أن يكون شاهداً على ما يخلقه الفقر من مظالم على مستويات عدة، والإقرار بالمشكلة كخطوة أولى لحلها.
يذكرنا هذا بمشهد تعزز في ظل أزمة كورونا، عندما تنصل المسؤول من مهامه ووجه أصابع الاتهام نحو الأفراد.
وربما أرادت الكاتبة أن تنهي بقصة تعيدنا إلى لحظات انتفاضة الشعب الأردني، لتذكرنا بالأمل الذي نحن في أمس الحاجة إليه اليوم.
في ظل وباء عالمي يخنق الأنفاس، نفهم جيداً معنى أن تكون حياتنا مهددة، ليس بخطر المرض فقط، وإنما بتدهور المنظومة الصحية وانعدام المسؤولية تجاه شعب يخنقه الفساد على وجه الحقيقة لا المجاز.