قضايا وآراء

آفات "العقل التأسيسي".. باقية وتتمدد

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
بحكم الأزمات الدورية التي تعرفها تونس منذ الثورة على نظام المخلوع، قد لا نبالغ عندما نُذكر في كل مرة بالطبيعة "التأسيسية" لتلك الأزمات، أي ارتباطها بالفترة التأسيسية لما سُمّي بـ"الجمهورية الثانية". وليس هذا التذكير إلا ضربا من "المقاومة" لأغلب الخطابات المهيمنة على الساحة. فتلك الخطابات لا تكتسب شرعيتها إلا باعتماد منظورات سياقية اختزالية تُسطّح المشاكل؛ بالشخصنة حينا وبالانتكاس إلى البراديغمات الأيديولوجية المفوّتة حينا آخر.

ورغم اضطرار أهم الفاعلين الجماعيين إلى الاعتراف بوجود أزمة تأسيسية وتقديم تصورات متباينة لتدارك ذلك، فإنهم يشتركون جميعا في سعيهم إلى إعادة إنتاج "توافق نفعي" - بلغة المفكر الألماني هابرماس - بدل السعي إلى إنتاج توافق عقلاني يقبل الاستمرار بحكم طبيعته العقلانية المخالفة للتوافق النفعي المتغير، حسب مخرجات صناديق الاقتراع وموازين الضعف داخل الحقل السياسي وخارجه، بل المرتهن - بحكم فقدان مقومات السيادة وغياب مشروع وطني جامع - للمتغيرات الإقليمية والدولية.
الحديث عن "الأزمة التأسيسية" لا يعني فقط أزمة الدستور أو أزمة القانون الانتخابي ولا أزمة النظام السياسي، بل هو عندنا أعمق من ذلك بكثير. فدخول حركة النهضة فاعلا رئيسيا في الحقل السياسي بعد الثورة كان معطى ذا مفعول متناقض

هل كان فعلا تأسيسيا للجمهورية الثانية؟

إن الحديث عن "الأزمة التأسيسية" لا يعني فقط أزمة الدستور أو أزمة القانون الانتخابي ولا أزمة النظام السياسي، بل هو عندنا أعمق من ذلك بكثير. فدخول حركة النهضة فاعلا رئيسيا في الحقل السياسي بعد الثورة كان معطى ذا مفعول متناقض.

فمن جهة أولى يمكننا اعتبار هذا الحدث نوعا من التصحيح لبنية المجال السياسي"اللائكي" الذي ظل يشتغل بالتقابل المطلق مع الإسلاميين، ولكنّ هذا الحدث أيضا كان السبب الرئيس في حرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية (يواجه فيها الجميعُ باختلاف أيديولوجياتهم المنظومةَ القديمة وخياراتها اللاوطنية) إلى مدارات ثقافوية هووية (يواجه فيها "الحداثيون" أو "الديمقراطيون" بمن فيهم ورثة المنظومة القديمة؛ النهضةَ وكل حركات الإسلام السياسي). وقد كانت لهذا الوضع "المتناقض" آثار كارثية على طريقة إدارة المرحلة التأسيسية، وما سيعقبها إلى حدود هذه اللحظة وما يهيمن عليها من "صراع الرئاسات الثلاث".

رغم غياب ممثلي المنظومة القديمة الصرحاء في تركيبة المجلس التأسيسي وفي "الحوارات" التي مهّدت له أو صاحبته، فإنهم قد كانوا هم الحاضر الأهم فيه، وكانوا كذلك المستفيد الأعظم من مخرجاته التوافقية النفعية. لقد كان التأسيس للجمهورية الثانية يتم بعقول لم تتخلص من مترسبات الجمهورية الأولى بلحظتيها الدستورية والتجمعية.
رغم غياب ممثلي المنظومة القديمة الصرحاء في تركيبة المجلس التأسيسي وفي "الحوارات" التي مهّدت له أو صاحبته، فإنهم قد كانوا هم الحاضر الأهم فيه، وكانوا كذلك المستفيد الأعظم من مخرجاته التوافقية النفعية

وكان حضور حركة النهضة - بعد خيارها الاستراتيجي دخول الدولة وعدم مواجهتها، والخروج من منطق البديل إلى منطق الشريك - يدفع تحويل الجمهورية الثانية إلى لحظة إعادة التوازن للجمهورية الأولى، مع إدخال بعض التعديلات الصورية على آليات اشتغالها وتوسيع قاعدتها"الزبونية". فلا أحد في المجلس التأسيسي طرح إعادة التفاوض حول الفلسفة التأسيسية للدولة- الأمة التي أعقبت الاستقلال الصري عن فرنسا (أي الفلسفة السياسية اللائكية وما تمثله من قاعدة متقدمة للنفوذ الفرنسي في تونس)، ولا أحد استفزته التناقضات العميقة التي أوجدها الدستور بين دولة "دينها الإسلام" وبين فصول تكاد تُشكل "ديانة وضعية" بحكم تحرّك منظومة حقوق الإنسان بالضرورة ضد قيم الأديان وتشريعاتها، ولا أحد أخيرا تساءل عن "راهنية" البورقيبية وقدرتها على أن تكون "الخطاب الكبير" في الجمهورية الثانية قبل أن تُستعاد بصورة نقدية تمهيدا لتجاوزها جدليا.

في ضرورة تجاوز التوافق المؤقت وبناء توافق استراتيجي

لقد كان "الآباء المؤسسون" للجمهورية الثانية يعلمون جيدا وهَن بنيانهم، ولكنهم كانوا يسعون إلى ترحيل المشاكل أو تأجيلها انتظارا لريح مواتية. فغاية ما يريدون في ذلك السياق الهش هو تحقيق توافق نفعي مؤقت - غير مبدئي ولا عقلاني - وسيكونون هم أول من ينقلب عليه حالما تتغير المعطيات السياقية التي أنتجت التوافقات التأسيسية، وقد حصل ذلك في أكثر من مناسبة. ولا شك في أن آفات "العقل التأسيسي"، من مثل استبطان المنطق الانقلابي، والتفكير بمنطق نفعي تكتيكي لا بمنطق عقلاني، وغلبة المشاعر وضمور الأفكار، وعدم مواجهة مكوّنات المنظومة الحاكمة واختزالها في الحزب الحاكم وبعض الشخصيات التي كانت مجرد "كبش فداء"، والعجز عن التخلص من الفلسفة السياسية اللائكية والانفتاح على النماذج العلمانية الأخرى، وتحويل الصراع إلى صراع ثقافوي وإحياء السردية البورقيبية باعتبارها سردية الجمهورية الثانية، حصر مفهوم الفساد في البعد الاقتصادي دون البُعدين السياسي والقيمي.. كانت كلها أكبر حليف موضوعي للمنظومة القديمة التي لن تتأخر في استعادة "صدر المجلس"، أي مركز الحقل السياسي بعد انتخابات 2014.
الاعتراف بالطبيعة البنيوية للأزمة لا يعني تبني الخطاب الانقلابي ومحاولات إعادة إنتاج توافق نفعي جديد، ولا يعني كذلك إنكار أهمية ما حصل من انكسارات في بنية المنظومة القديمة

لو أردنا مقاربة الواقع التونسي بعيدا عن الحدّين المتصارعين على إدارته (حد التغني بـ"الاستثناء التونسي" وإنكار الثمن الباهض اقتصاديا واجتماعيا وقيميا لهذا الاستثناء، وحد تبييض المنظومة القديمة وترذيل الثورة وإنكار الطبيعة اللاوطنية والمافيوزية لتلك المنظومة)، لقلنا إنه واقع "مأزوم بنيويا". ولكنّ الاعتراف بالطبيعة البنيوية للأزمة لا يعني تبني الخطاب الانقلابي ومحاولات إعادة إنتاج توافق نفعي جديد، ولا يعني كذلك إنكار أهمية ما حصل من انكسارات في بنية المنظومة القديمة - فكريا وموضوعيا - وما يفتحه ذلك الانكسار من ممكنات تاريخية ما زالت النخب تتفنن في إهدارها، خاصة منها بناء "الكتلة التاريخية".

وليست الكتلة التاريخية عندنا مجرد تجاوز جدلي لأشكال التوافقات البائسة المشتقة من التوافق التأسيسي، وليست كذلك مجرد تجميع اعتباطي أو ترصيف عشوائي لهوامش السرديات الكبرى أو لهوامش المجتمع، بل هي الأداة المثلى لطرح "اللا مفكر فيه"، وللتفاوض العقلاني حول إعادة هندسة المجتمع وتحديد أولوياته الحقيقية، بعيدا عن آفات التوافق التأسيسي وأزماته الدورية التي لن يكون صراع الرئاسات آخرها مهما كان مخرجه التوافقي "البراغماتي" والمؤقت بالضرورة.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)