"إنما الأمم
الأخلاق ما بقيت".. كلمات لها أثر من نور، حرص
آباؤنا على نقشها في أذهاننا منذ الصغر، لتصنع أرضية مفاهيمية صلبة بأن عماد بقاء
الأمم وتأثيرها واستدامتها هو الأخلاق. وباتت هناك حاجة ماسة لإعادة تعريفها
وشرحها والتذكير بأهميتها ومكانتها، علّها تعيد، ولو قليلا، مجموعة من القيم
المفقودة في حياتنا اليومية، وخصوصا في تعاملاتنا المالية والتجارية.
فبعد عقود من العمل في مجالات الاستثمار
والتجارة وريادة الأعمال، أرى أن أكثر ما يشوب قطاع الأعمال في العالم العربي هو
حالة التراجع في منظومة القيم والأخلاق في التعاملات المالية والتجارية، يحدث هذا
رغم أن تراثنا الحضاري الإسلامي كان ولا زال يملك كنوزا أخلاقية ألهمت العالم على
مدار قرون، وقدمت حلولا لكثير من المشاكل المستعصية في الطب والتعليم والتجارة،
فإذا كانت هناك ميزة تنافسية لأمتنا عن باقي الأمم، فإنها وبدون أدنى شك ميزة
التفوق القيمي والأخلاقي.
فبينما تعج حضارتنا بعشرات المقولات والكتب
التي تؤكد، منذ مئات السنين، وجوب الالتزام بالقوانين والمبادرات الأخلاقية، أو ما
يعرف بـ"Codes of
Ethics" في
التجارة والطب والقانون، فإن
نشأة مصطلحات التجارة الأخلاقية في العلوم الإدارية والمالية تعود إلى بداية
الثمانينيات من القرن الماضي، حتى أن مبادرة التجارة الأخلاقية أو ما يعرف بـ"Ethical Trading Initiative"، قد ظهرت في منتصف التسعينات.
ومفهوم التجارة الأخلاقية الذي أقصد بإعادة
الاعتبار إليه، هو المحافظة على أقصى درجات الالتزام بمبادئ الصدق والأمانة
والتنافس الإيجابي، والنزاهة والشفافية في تعاملاتنا المالية والتجارية وألا نلجأ
لطرق ملتوية وغير أخلاقية. فالمنطق الذي يقول: "Business is business"، والذي يستخدمه كثير من المستثمرين ورواد الأعمال لتبرير أفعال
غير أخلاقية؛ هو منطق لا ينتمي لثقافتنا ولا يشبهنا ولا يشبه تاريخنا ولا حضارتنا.
لذلك، فإن أهم صفة يجب أن يتحلى بها رجل
الأعمال هي الصدق، فالصدق سيد الأخلاق، وبه تنال ثقة الناس وتقديرهم، وقديما قيل:
"من صدق الناس، شاركهم أموالهم". وفي هدْينا الإسلامي كثرت الآيات
والأحاديث القرآنية التي تحتفي بالصادقين، التجار والمستثمرين منهم على وجه
الخصوص، أشهرها الحديث الذي قُورن فيه التاجر الأمين مع الأنبياء ووُضع في مرتبة
الصديقين والشهداء.
والصدق أبدا لا يتجزأ، إما أن تكون صادقا أو كاذبا،
لا يستوي أن يكون الرجل نصف أو ثلثي صادق، ليس من المنطق ولا المعقول أن تصدق
أبناءك وزوجتك وعائلتك، وتخون زبائنك وموظفيك ومنافسيك.
وهذا الأمر يفتح بابا مهما لنقاش ضرورة أن
يلتزم التاجر بالصدق في العنصر التسويقي للمنتج المقدم للزبون. حيث في القديم كان
علم التسويق يرتكز على كيفية إخفاء عيوب السلعة وإبراز محاسنها، ولكن تبين أن هذه
المدرسة تأتي بنتائج سلبية على المدى البعيد، وأن الصدق مع الزبون يأتي بنتائج
مبهرة على المدييْن القريب والبعيد، فالزبون يتحول إلى سفير لترويج سلعتك إن كنت
صادقا أمينا معه.
هذا في حالة الصدق مع الزبون، أما الصدق مع
المنافس، والذي يستغرب طرحه كثير من المتابعين والزملاء من رجال الأعمال، سائلين
كيف أكون صادقا مع منافسي الذي يريد أن يتقاسم السوق معي ويحاربني في زبائني...؟
أقول: نحن بحاجة إلى تحقيق مبدأ مهم في التجارة الأخلاقية وهو التنافس الإيجابي،
الذي هو في حقيقته ظاهرة صحية ومهمة لتحفيز الطاقات والإبداع في عالم الأعمال.
فالتاجر المنافس هو زميل وليس عدوا، هناك
تعاملات بين المنافسين أشبه بالحروب وهذا مرده التنافس السلبي، وأبدا لا يستقيم مع
مبادئ التجارة الأخلاقية. الأصل أن المنافس هو زميل يدفعنا نحو التنافس الإيجابي
لتقديم منتج بطريقة إبداعية، منتج يحقق أقصى مصلحة ممكنة للزبون وهامشا جيدا من
الربح. وهنا يحضرني مثال من كرة القدم العالمية، تخيل أن نادي برشلونة يلعب منفردا
بلا منافس قوي، بالطبع سيفقد النادي الحاجة للإبداع والتحسين المستمر في الأداء
وسنفقد نحن، كمشجعين أو "زبائن"، شغف المتابعة ومتعة المشاهدة.
والمقصود بالتنافس الإيجابي أو الصدق مع
المنافس هو البعد كل البعد عن الأساليب الملتوية وغير الأخلاقية للإيقاع به وفي
سمعته، والحرص على الاطلاع على تفاصيل لا يرغب هو بمشاركتها، والاكتفاء بجمع
المعلومات والوثائق والمستندات التي يكشف عنها المنافس بشكل طوعي عبر التقارير
المطبوعة والأخبار المرئية. ومن المؤسف حقا أن يقوم عدد من المستثمرين باتباع طرق
غير أخلاقية للإيقاع بالمنافس والحصول على معلومات لا يرغب هو بكشفها، بحجة أن
أسبقه في هذا الفعل قبل أن يقوم هو بذلك، وأعتقد أن هذا يدخل في باب انتهاك
الخصوصية وخيانة الثقة.
والأهم، إنّ استمرار التركيز مع المنافسين
بإظهار عيوب المنتج والسلعة المقدمة منهم يضرب موثوقيتك واحترافيتك أمام زبائنك.
هذا التصرف لا يظهرك بشكل غير أخلاقي فقط، بل يعمل على تسويق عكسي لصالح العلامة
التجارية لمنافسك والمنتج الذي يقدمه.
أما ما أقصده بمبدأ النزاهة والشفافية فهو
مرتبط أيّما ارتباط بالصدق، والذي أصفه دائما بأنه سيد الأخلاق، ويعني توفر
المعلومات وسهولة الوصول إليها وإعطائها لمن يرغب دون خبث أو تضليل، وأن يكون
التواصل بالسرعة المناسبة وبمنتهى الأمانة والمصداقية. هذا المبدأ وإن كان غير
شائع في مجتمعاتنا، إلا أنه عامل مهم من عوامل تقدم المجتمعات وتماسكها، ووصفة
مهمة لمحاربة الفساد البنيوي في المؤسسات الخاصة والعامة. عدد من الدراسات وآخرها
تقارير منظمة الشفافية الدولية (Transparency
International) أكدت وجود علاقة وثيقة بين
هذا المبدأ وقدرة الدولة على محاربة الفساد، واصفة إياه بـ"العدو اللدود
للفساد."
تماما، وهذا هو المقصود من المقال.. إنّ إعادة
الاعتبار لمبادئ التجارة الأخلاقية في تعاملاتنا المالية والتجارية لا يعود بالنفع
على الشركة التي أملك أو على مشروعك الاستثماري الصغير فحسب، بل على كل القطاع
الخاص ومن ثم القطاع العام في الدولة ككل، كما ذكرت منظمة الشفافية الدولية، وكأن
النموذج الأخلاقي الصغير هو وصفة سهلة للوصول إلى أمة عظيمة قادرة على حجز مقعد
لها بين الأمم القوية والطموحة والمؤثرة. وها نحن ننتهي بالضبط من حيث ابتدأنا:
"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت...".