أقدمت منصات تويتر وفيسبوك ويوتيوب على إغلاق أو تجميد
حسابات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إثر اقتحام الآلاف من مؤيديه، بتحريض وتشجيع منه، لمبنى الكابيتول مقر الكونغرس الأمريكي.
ولوحظ كذلك، أن شبكات التلفزة المعارضة لترامب ولتوجهات ما يسميه كثيرون اليمين المتطرف في المجتمع الأمريكي، أحجمت عن إعطاء وقت على شاشاتها لكبار مؤيدي
ترامب في
الحزب الجمهوري، من أمثال السيناتور تيد كروز.
هكذا إذن، أزيحت جانبا كل مسلمات حرية التعبير التي يروجون لها في أطروحات الحداثة الغربية والأوروبية، باعتبارها البؤرة المركزية للحضارة الإنسانية منذ أن انبلج فجر عصر التنوير، وكأنه لم يكن هناك في عالم البشر تنوير قبل ديكارت وفولتير وهوبز وهيغل ونيتشه وغيرهم من مفكري الغرب الذين ذاع صيتهم وأصبح ترداد أسمائهم مؤشرا إلى الثقافة والفكر.
أزيحت جانبا كل مسلمات حرية التعبير التي يروجون لها في أطروحات الحداثة الغربية والأوروبية، باعتبارها البؤرة المركزية للحضارة الإنسانية
قد أتفهم الاعتبارات التي حملت تلك المنصات على إقفال أبوابها في وجه ترامب، فالرجل تجرأ على "تدنيس" قدس أقداس الديمقراطية الليبرالية في عاصمة الحداثة أو ما بعدها كما يرى خصومه، مع أنه ربما يعتقد أنه بذلك الفعل أراد تخليص الرمز "المقدس" مما يعتبره ترامب والمؤمنون بتفوق العرق البيض، عبث الأمريكيين من أصل إفريقي، ومن تلوينات المهاجرين الدخلاء على أمريكا وثقافتها وهويتها التي صاغها المهاجرون الأوائل بجيناتهم البيضاء.
"المقدس" يجب أن يحترم إن كان من رموز المركزية الغربية، أما إن كان من معتقدات ورموز الديانات الأخرى فحرية التعبير مقدمة عليه. وحين يتعلق الأمر بالرسوم المسيئة لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ينبري الغرب كله، وبلسان واحد ليدافعوا عن حرية التعبير، ووصم من يطالب باحترام ثقافة الآخر ومعتقداته بالتخلف. فلا نجد في منابرهم التلفزيونية والصحفية والفكرية ووسائل
التواصل الاجتماعي من يتصدى لتلك الإساءات، اللهم إلا قلة قليلة، تضيع أصواتها وسط معمعات الليبرالية والحداثة والحرية.
وهل كان تويتر وغيره من المنصات لتغلق حسابات ترامب لو أنه حرض على الإسلام والمسلمين؟ وقد اتهمهم مرات عديدة في خطاباته الانتخابية ببغض أمريكا من دون أي إثبات أو برهان، كما اتهم خصومه بتزوير انتخابات الرئاسة وسرقتها وحرمانه من ولاية ثانية من دون أي دليل ملموس كذلك. سيقولون لنا اتهام المسلمين ببغض أمريكا ليس تحريضا، بل رأي لصاحبه الحق في التعبير عنه. فما أكثر التخريصات التي قد يلجأ إليها المرء إن أراد أن يسوغ انحيازاته، أو ينكر ما يعتري ذاته من علل، أو يلبسها للآخر.
هل كان تويتر وغيره من المنصات لتغلق حسابات ترامب لو أنه حرض على الإسلام والمسلمين؟ وقد اتهمهم مرات عديدة في خطاباته الانتخابية ببغض أمريكا من دون أي إثبات أو برهان، كما اتهم خصومه بتزوير انتخابات الرئاسة وسرقتها وحرمانه من ولاية ثانية من دون أي دليل ملموس كذلك
في أمريكا قدر كبير من الجمال والأحلام والفكر الخلاق لا ينكره إلا مكابر، لكن فيها كذلك قدرا كبيرا من القبح والكوابيس والفكر الهدام لا ينفيه إلا منكر أفاك. وما يخيف هو أن الشطر الثاني من هذه المعادلة يرجح عاما بعد عام على الشطر الأول.
فهناك في أمريكا ملايين ممن ينساقون وراء دعوات أن توصد أمريكا أبوابها في وجه المختلفين عنها لونا وثقافة. وهناك في أمريكا من لا يأبه لما يدور في خارج حدودها، حتى وإن كان حربا على الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان. هذه هي أمريكا التي انتخبت رئيسا يصنف المستبدين طبقات، على رأسها "دكتاتوره المفضل".
هذه هي أمريكا التي يتسابق رؤساؤها ونوابها وسيناتوراتها على إعلان تأييدهم المطلق لإسرائيل، وهم يعلمون يقينا أن إسرائيل آخر كيان عنصري في العالم ويقولون لنا إنهم مع تحرر الشعوب ونشر الديمقراطية.
خرج خصوم ترامب يقولون إذ شاهدوا الهجمة على مقر الكونغرس وما تخللها من صور: "نحن لسنا هكذا" (This is not who we are)، ونحن من تصرفات هؤلاء براء! وهذه هي اللازمة التي يعزفونها كلما تكشف العنف والتعصب الكامن في بعض شرائح المجتمع، فهؤلاء في عقيدتهم قلة لا تمثل المجتمع.
أما حين يرتكب مسلم أو مجموعة من المسلمين عملا "إرهابيا" فذلك ينسحب على كل المسلمين، وتتبدى في المجتمعات الغربية مظاهر ما يسمى "الإسلاموفوبيا" أو رهاب المسلمين. أوَ لم يمنع ترامب نفسه دخول مواطني بلدان مسلمة كثيرة إلى أمريكا متذرعا بمخاوف الإرهاب؟ أوَ لم يقف الغرب كله مع إيمانويل ماكرون وهو يضيق على المسلمين ومساجدهم إثر مقتل المدرس الذي عرض على طلبته صورا مسيئة للنبي؟
وحين نقول نحن المسلمين إن الإسلام براء من تصرفات بعض أتباعه غير السويّة، لا نسمع ولا نجد في وسائل الإعلام الغربية، في الغالب الأعم، من يتعامل بإنصاف ويرفض مظاهر رهاب المسلمين، بل تعودنا على اتهامهم للمسلمين بالعمل على تغيير ما يسمونه في الغرب "طريقة حياتنا" (Our Way of Life)، مع أن كثيرا من المسلمين يودون لو أنهم بادون في الغرب هربا مما في مجتمعاتهم من قمع وبؤس اقتصادي.
حين نقول نحن المسلمين إن الإسلام براء من تصرفات بعض أتباعه غير السويّة، لا نسمع ولا نجد في وسائل الإعلام الغربية، في الغالب الأعم، من يتعامل بإنصاف ويرفض مظاهر رهاب المسلمين، بل تعودنا على اتهامهم للمسلمين بالعمل على تغيير ما يسمونه في الغرب "طريقة حياتنا"
هي كما قال "بوب وودوارد" يوما حالة نكران وجحود (State of Denial)، رغم أن أنفسهم في الغرب تستيقن الخلل الكامن في مجتمعات الحداثة التنويرية بأبعاده التاريخية والثقافية، وما يلحقه بالعالم كله من أضرار، إذ لا يستطيع الفكاك من قبضة الكولونيالية الغربية وأدواتها الفكرية والإعلامية والرأسمالية.
فهل نبعت الهجمة على مبنى الكونغرس من سراب حسبه أولئك ماء؟ أم هي حركة تيار يستمد قوته من مجتمع أسس بنيانه على أنقاض أمم وثقافات أخرى، ورفع صروحه المقدسة بعرق المستعبدين ويتسود العالم اليوم بسلاح الجبروت والتخويف؟
كثيرون في أمريكا يدركون مخاطر حالة النكران تلك، فهم يعلمون أن الإمبراطورية يعتريها الوهن إن تلبسها النكران. فأهل السياسة وأصحاب المال فيها، وكثير ممن يرونها وطنا لهم وحدهم، بفضل لون بشرتهم، ينكرون أمراضها ويقرون مواقفها الظالمة وحروبها التي ما تزال تقتل وتدمر.
كثيرون في أمريكا يدركون مخاطر حالة النكران تلك، فهم يعلمون أن الإمبراطورية يعتريها الوهن إن تلبسها النكران. فأهل السياسة وأصحاب المال فيها، وكثير ممن يرونها وطنا لهم وحدهم، بفضل لون بشرتهم، ينكرون أمراضها ويقرون مواقفها الظالمة وحروبها
هل حقا أن الفلسطينيين يهددون طريق حياة الأمريكيين؟ وهل حقا كان الفيتناميون كذلك، أو أطفال العراق الذين جُوعوا، أو أطفال أفغانستان الذي يُقتلون أحيانا وهم نائمون؟
إنه النفاق القديم القديم يتكرر اليوم. وليس أصدق من الجملة التالية التي جاءت على صفحات سي إن إن، تعليقا على ما شهده مجلس النواب من سجال بين الجمهوريين والديمقراطيين حول توبيخ وإدانة ترامب مرة ثانية: "لقد كان النقاش في مجلس النواب قبل التصويت يوم الأربعاء مهرجانا للنفاق والتظاهر الأخلاقي الزائف والكذب العلني، إذ أنكر مؤيدو ترامب الحقيقة جهارا".
إنها حالة النكران التي لن يقتصر خطرها على أمريكا وحدها، بل على العالم الذي تقوده.