لم أفزع من الموت الذي كان وشيكا، وأفزعتني للغاية صورة الممرضة المصرية التي انهارت عقب مقتل عدد من المواطنين
بأحد المستشفيات المصرية بعد أن نفد الأكسجين عنهم، تلك الممرضة التي ظهرت ملتصقة بالحائط وترغب في أن يحتويها بعد أن شاهدت جميع مرضى العناية وهم يلقون حتفهم اختناقا، وفيهم الشيخ والشاب والرجل والسيدة.. مصير لم تكن تتوقعه رغم أنها تعيش الموت بشكل يومي بحكم وظيفتها، ولكن هذه المرة جاء الموت محمولا على أعناق عصابة الانقلاب التي باتت لا تقدم للمواطنين إلا الخراب والدمار والقتل والاعتقال والإخفاء القسري والتعذيب والتنكيل.
وتتحمل عصابة الانقلاب المسؤولية كاملة عن مقتل هؤلاء جميعا، والذين ينضمون إلى سلاسل جرائم الانقلاب وفجوره الذي لم تعد هناك جريمة حتى الآن إلا وارتكبها في حق مصر والمصريين.
أتابع هذا الحدث مستخدما جهاز الأكسجين وشاعرا بالمعاناة التي واجهها المرضى قبل مقتلهم، وكيف أن حياتهم كانت متعلقة بهذه الأجهزة. فالاختناق الذي قتلهم يرى الانقلاب أنه غير كاف ويحاول من كل طريق أن يخنق الأحياء أيضا، فهو يصر على أن يتنصل من المسؤولية وأن يحمل المسؤولية لأطراف إن لم تكن ضحايا أيضا فهي غير مسئولة عن هذه الكارثة.
كما أن هذه الجريمة تعبر عن طريقة تعامل الانقلاب مع المواطنين المصريين، فهو يخنقهم في عربة الترحيلات وما يزال يواصل خنقه لهم في غرفة الإنعاش، ولكن لا يريد لهم أن يشتكوا.. يصم آذانه عن معاناتهم، وإذا تجرأ أحدهم وصرخ يعاقبه، وإن لم يصرخ ولكن كان غير متبلد الحس يعاقب، في الوقت نفسه يهتم المنقلب بأمور أخرى لن يكون آخرها إنفاق المليارات لتأمين حياته جوا وأرضا وبحرا، حيث كشفت وكالة التعاون الأمني الدفاعي، التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، عن إبلاغها الكونجرس بموافقتها يوم 29 كانون الأول/ ديسمبر 2020، على صفقات سلاح لعدة دول من بينها مصر، والتي تبلغ صفقة الأسلحة معها نحو 169.6 مليون دولار، وتشمل بيع أنظمة مضادة للأشعة تحت الحمراء لتعزيز الطائرات الرئاسية بقيمة 104 ملايين دولار، إلى جانب كبسولات استهداف متطورة للطائرات بقيمة 65 مليونا و600 ألف دولار.
لم يكن رد فعل الحكومة مفاجأ أو مخالفا للتوقعات، فهي تصرفت كما تتصرف في العادة بفجور ومعاقبة من لا يستحق العقاب، وفتح النار على من يستحق التكريم، والتعتيم على القضية ومحاولة طمسها، بل والحرص على التخويف من تكرار كشفها وليس تكرار الجريمة ذاتها
لم يكن رد فعل الحكومة مفاجأ أو مخالفا للتوقعات، فهي تصرفت كما تتصرف في العادة بفجور ومعاقبة من لا يستحق العقاب، وفتح النار على من يستحق التكريم، والتعتيم على القضية ومحاولة طمسها، بل والحرص على التخويف من تكرار كشفها وليس تكرار الجريمة ذاتها التي لن تتوقف عن التكرار. الانقلاب لا يريد إلا التعتيم فهو لا يعالج المشكلات ولكنه مشغول أكثر بمنع الكشف عنها، فهذا الانقلاب الفاجر لو بذل نصف مجهوده في التعتيم على محاولة علاج مثل هذه المشاكل لانصلح الحال، ولكن كيف يكون له ذلك وهو بالأساس خائن للأمانة ولا ينشغل بمصالح البلاد والعباد، ولا تشغله إلا
المشاريع الوهمية التي يستهدف من خلالها تصدير صورته بأنه صاحب إنجازات وأنه يبني ويعمّر، بينما المجالات الحقيقية التي تهم الناس وتمس حياتهم أثبتت أنه فاشل ومجرم، فهو لا يقوم بهذه المشاريع عن جهل أو خطأ ولكن عن إصرار وتعمد، ويكفي أنه على مدار السنوات السبع الماضية لم يتوقف يوما عما يقوم به، بل ويفتخر بذلك.
إنّ من قتلوا في مستشفى الحسينية أو من قتلوا في ربوع مصر منذ الانقلاب؛ في رقبته ومسؤوليته وسيحاسب على ذلك.
ومن دلائل فجور هذه العصابة أن سارعت زبانيتها وأجهزتها يوم الأحد الماضي (3 كانون الثاني/ يناير 2021) باعتقال الشاب "أحمد نافع" الذي قام بتصوير الفيديو، والتحقيق معه على ذمة القضية 955 لسنة 2020، متهمة بعدة تهم؛ منها نشر أخبار كاذبة وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك التحقيق مع من سمح بتصوير الجريمة وليس من نفّذها أو تسبب فيها. كما تم استهداف الممرضة - صاحبة الصورة الشهيرة - بطريقة إجرامية، حتى وإن كانت أنباء تحويلها للتحقيق لم تتأكد بعد، ولكن حملات التشويه الإعلامي لا يمكن نفيها أو إنكارها، فهناك صفحات لقنوات إخبارية سارعت بالهجوم على الممرضة واتهامها بعدم القيام بدورها، مع أن دورها هنا لم يعد له وجود من الأساس،
فلا يوجد أكسجين حتى تساعد المريض في استنشاقه، وتوفير الأكسجين ليس من مسؤوليتها ولكن مسؤولية الحكومة وعلى رأسها المنقلب. ومع ذلك فالحكومة - نفسها - هي من أحالت مدير مستشفى الحامول المركزي (محافظة كفر الشيخ) للتحقيق لاستغاثته بالمواطنين لتوفير أسطوانات أكسجين لإنقاذ المستشفى، فهذا مسؤول لم توقفه الصدمة عن العمل، ورغم أنه منع كارثة خصوصا مع استجابة المواطنين المحيطين بالمستشفى ومن جميع مدن وقرى المحافظة، إلا أن اللواء محافظ كفر الشيخ أحاله للتحقيق، وإن لم يتأكد سبب الإحالة؛ هل هي "الاستغاثة" أم "استجابة المواطنين".
ماذا يريد الانقلاب من المواطنين المصريين؟ ولماذا لم يعد المواطن يثق في السلطة أو الأجهزة المعنية، فباتت الثقة في الناس وفي مواقع التواصل الاجتماعي أكبر بكثير؟
مثل هذه الحوادث والسلوكيات الحكومية تجعلنا نطرح سؤالا في غاية الأهمية في هذا التوقيت: ماذا يريد الانقلاب من المواطنين المصريين؟ ولماذا لم يعد المواطن يثق في السلطة أو الأجهزة المعنية، فباتت الثقة في الناس وفي مواقع التواصل الاجتماعي أكبر بكثير؟ ببساطة لأن التجارب على مدى السنوات الماضية أثبتت أن من يلجأ إلى السلطة من خارج المؤسسات الأمنية سيتحمل المسؤولية وسيتلقى العقاب على ارتفاع صوته، ولن يتم النظر إلى المشكلة الحقيقية، بل ستبذل الجهود على عمليات التغطية والطرمخة.
وقضية المواطن محمد حسني والتي كتبنا عنها مقالا بعنوان "
المواطن المقهور"؛ رصدت قيامه بحرق نفسه في ميدان التحرير بعد أن باءت كل محاولاته لكشف الفساد في البنك الحكومي الذي كان يعمله فيه بالفشل، ولم يتلق إلا العقاب والفصل والتشويه والاتهام بالجنون، وفي نهاية الأمر لم يجد أمامه إلا إشعال النار في نفسه.
فالانقلاب يريد إخراس الجميع، يريد التسليم بالأمر الواقع والقبول بما يجود به عليهم. وليس ذلك فحسب، بل لا بد من التهليل والتهويل والإشادة والغناء والدعاء لقائد الانقلاب الذي يحلم بأن تسبغ عليه الألقاب وتتحدث الدنيا عن إنجازاته، وهي مشاريع وهمية لا تخدم إلا خططه في دوام انقلابه وترسيخ هيمنته على مقدرات البلاد والعباد.
لا بد من التهليل والتهويل والإشادة والغناء والدعاء لقائد الانقلاب الذي يحلم بأن تسبغ عليه الألقاب وتتحدث الدنيا عن إنجازاته، وهي مشاريع وهمية لا تخدم إلا خططه في دوام انقلابه وترسيخ هيمنته على مقدرات البلاد والعباد
لا يمكن التقليل من خطورة أزمة فيروس كورونا وأن تأُثيره ممتد في جميع أنحاء العالم، ولكن في الوقت نفسه لن تجد في أي دولة مثل سلوكيات هذا الانقلاب وأجهزته. فلا يمكن استيعاب موقف وزيرة الصحة وسلوكها عقب مقتل المواطنين من نقص الأكسجين الذي هو مسؤولية وزارتها؛ بأن تقوم بالمشاركة في حفل زفاف يحضرة المئات على الأقل دون مراعاة أي احترازات إنسانية أو صحية أو قانونية أو مجتمعية، فأي رسالة تريد أن توصلها هذه الوزيرة؟ ماذا يفهم المواطن من مثل هذه التصرفات؟ كيف له أن يلتزم بالإجراءات الوقائية وهو يرى أكبر مسؤول عن الصحة في البلد يتصرف بمثل هذه العنجهية والتهور وعدم المسؤولية واللامبالاة؟
إن هذه الأزمة كشفت حتى الآن أن من يحمي مصر هم شعبها ومواطنوها، والأطباء الذين تحمّلوا هذه الأزمة على كاهلهم يتم الاستخفاف بهم، سواء من ناحية الالتزام بالتعهدات
المالية التي قطعها الانقلاب على نفسه في الموجة الأولى، أو خداعهم وإجبارهم على العمل بدون أي ضمانات مالية أو صحية، أو تجاهل شهدائهم الذين يزيديون عن أي دولة أخرى، بل وتعرض بعضهم للسجن والاعتقال لمجرد انتقاد هذه الأوضاع.
الاستخفاف بمصر وبالمصريين بات ديدن هذه العصابة التي لا ترى المواطن، فهو خارج مجال رؤيتها، وهي لا تراه ولا تريد أن ترى.
مواطنة الاستخفاف صارت تولد المواطن المقهور.. المواطن المخنوق.. المواطن المقتول.. وشماعة الإخوان جاهزة لتحميلهم كل شيء والتهرب من كل مسؤولية.
twitter.com/Saif_abdelfatah