كانت غرفة اعتقال لدى جهاز من أجهزة السلطة الفلسطينية، تكتظّ بالمعتقلين العابرين، ومن بينهم كنتُ المقيم الوحيد الذي لا يرجو فرجاً قريباً، ولا يمنّي نفسه بالمباهج الصغيرة المتاحة لمثله في فسحة الحياة الضيقة خارج السجن، ولأنّ ما يفصلنا عن رمضان قليل من الأسابيع، سألني رجل يستبدّ به القلق الطفولي من احتمال أن يطول عبوره السجن أياماً أخرى، ويستبد به الشوق الطفولي إلى تلك المباهج الصغيرة.. سألني: هل لديك علم بالذي سيقدّمه لنا هذا العام
حاتم علي ووليد سيف؟
ثلاث سنوات فصلت سؤاله لي عن خروجي من السجن، ومشاهدتي آخر تعاون بين الرجلين في مسلسل عمر بن الخطاب، ومنذ ذلك الوقت، أسأل نفسي: هل يتاح للرجلين أن يقدّما عملاً جديداً، أو على الأقل أن يستكملا السلسلة الأندلسية، بما يفترض أنّها رابعها وخاتمتها "آخر أيام غرناطة"؟!
فيما سبق، كنّا نرجو فرجة تمنحنا المتعة والمعنى في الوقت نفسه، والمسكونون بالأيديولوجيا يحلمون بالدراما والسينما أغلفة لرسائلهم الكبرى، الراجية تغيير العالم، أمّا الآن، فنحن كلّنا، في السنوات الأخيرة من عمر حاتم علي، تواضعت أحلامنا، الصغيرة والكبيرة منها. بتنا نحلم بقليل من الأمل، في وجه معنى من المعاني التي سكبنا فيها أعمارنا، نراه في طيات مسلسل جديد لحاتم علي، من طراز تلك
المسلسلات التي صوّر فيها نصوص وليد سيف.
الدراما والسينما، بما هما صناعة وسوق، لن يتمكن المبدع من إنفاذ مشروعه الإبداعي إلا وفق شروطهما المفروضة، فلما كانت تلك الشروط أكثر مرونة، أمكن للمبدع، الذي هو مخرج في هذه الحالة، أن يبثّ روح المعنى شديد العمق في ضمائر العرب، في صورته المدهشة
ما بين مسلسل عمر ووفاة مخرجه، كان
حاتم علي نفسه يحلم بأن يجد باباً يُدخِل منه مشاريعه من جديد إلى الحياة، إلا أنّ الحصار الذي فرضه عالم ما بعد 2013 على الحياة، كان يغتال مشروع حاتم، وفي الوقت نفسه يستنزف قلبه، ويفتك بجهازه العصبي. فالدراما والسينما، بما هما صناعة وسوق، لن يتمكن المبدع من إنفاذ مشروعه الإبداعي إلا وفق شروطهما المفروضة، فلما كانت تلك الشروط أكثر مرونة، أمكن للمبدع، الذي هو مخرج في هذه الحالة، أن يبثّ روح المعنى شديد العمق في ضمائر العرب، في صورته المدهشة.
لا بدّ أن نتذكر، والحال هذه، أنّ حاتم علي قُتِل قتلاً حقيقيّاً، لمّا
أُسقِط مسلسل التغريبة الفلسطينية من على منصة شاهد، التابعة لشبكة MBC السعودية، الأكثر (بقدراتها المالية الهائلة) نفوذاً في التأثير على
الدراما العربية، مما يعكس رسائل تلك الشبكة ومموليها، وخطّها السياسي، ورؤيتها لإعادة صياغة وعي الجمهور العربي نحو التطبيع مع الاحتلال، كما في مسلسلات رمضانها المنصرم "أم هارون"، و"مَخرَج 7"!
كان لا بدّ للمخرج أن يعمل، وقد عمل حاتم علي، وصنع في الأثناء العديد من الأعمال، وتجرّع في الأثناء مرارة إسقاط مسلسل التغريبة، وتوجّع من مخالب حصار مشروعه بشروط الصناعة التي تزداد توحّشاً استجابة للمال السياسي النافذ، والمتمم لدور السجون والمذابح. وإذا ظلّ قادراً على تطوير أدواته الفنيّة، يعيد بها تشكيل الصورة، والتجريب، واستخراج الأفضل من مجموع مكونات العمل الإبداعي، فإنّه لم يعد قادراً على إعادة بثّ المعنى الذي تسقط عليه قلوبنا كما فعل في الماضي.
الأمل في أن نجد شيئاً جميلاً، بهجة صغيرة، من الصورة والمعنى في عمل لحاتم علي، استدعى منّا كلّ هذا الحزن
الأمل في أن نجد شيئاً جميلاً، بهجة صغيرة، من الصورة والمعنى في عمل لحاتم علي، استدعى منّا كلّ هذا الحزن. فالمخرج الذي تبع سابقين له من المبدعين السوريين، من ممثلين ومخرجين أصحاب رؤية خاصة، في تغيير نمط الدراما العربية، والدفع بهذا التغيير إلى ساحة الصناعة الأكبر في مصر، لم يتمايز عن سابقيه وشركائه في تجديد شكل الدراما العربية وتقنياتها، فحسب، بل تمايز عنهم فوق ذلك، بانحيازه عن المذبحة المفتوحة في سوريا، ولو بالصمت والخروج منها. وإذا كان هذا الموقف قد نجاه من فخ الاستقطاب، ممّا
جمع عليه جميع الفرقاء والمختلفين، فإنّه حافظ على مصداقيته، والتزم بقدر من المعنى الذي كان يبثّه لنا، ويحلم في استكمال بثّه لنا.
مخرج بوزن حاتم علي، وتراثه الإبداعي الكبير، ومساهمته الضخمة في التغيير العميق في الدراما العربية، حينما يتمايز عن غالب الوسط الفني، وعن مخرجين لم يكن إسهامهم، ولو على مستوى الشكل يقلّ عنه، فإنّه بمجرد ذلك يُبقي للأمل فرصة في أن يجد في أعمال محتملة، لهذا المتمايز، ذلك المعنى الذي يرجوه.
واليوم، الذين يرثونه، وهم يستذكرون أعماله العظيمة، ومساهمته الفنية الضخمة، فإنّهم يخشون أن يرثوا في الوقت نفسه إمكانية أن يشقّ عمل، من صنف أعماله المحمّلة بتلك المعاني، ظلمة الانحطاط الراهن الذي يسود، فيأتي على حياتنا من أقطارها، وينغرس في عمقها، حتى طالت الرداءة ممثليه الذين صنع منهم أبطالاً في أعمال خالدة، وهم اليوم يجترّون التفاهة في ما يتيحه لهم شرط الصناعة الآن!
الأمل والإرث الكبير معنى وصورة، والموقف المحترم، ولو بالصمت والخروج والنجاة من فخّ الاستقطاب، والإشفاق على مشروع كانت تنهشه مخالب الانحطاط، كل ذلك يستدعي هذا الحزن كلّه، وإذا كان في الناس من لا يستبعد أن يكون الرجل قد غُيّب قسراً لقتل مشروعه نهائيّاً وانتقاماً مما تجلّى عنه مشروعه من قبل، وقد سبقه إلى وفاة شبيهة في البلد نفسه المخرج التونسي شوقي الماجري، صاحب مسلسل الاجتياح الذي يوثق الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية في العام 2002، فإنّ كلّاً منهما قد قتل قبل وفاته المعلنة، مع زحف التطبيع الأسود الذي يستهدف الروح العربية في أعمق نقطة فيها.
twitter.com/sariorabi