هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
وقع خبر وفاة المخرج السوري حاتم علي كالصاعقة على قلوب محبيه، وكل الذين تابعوا أعماله التي جاد بها علينا سنوات طويلة، إذ وافته المنية البارحة (يوم الثلاثاء الموافق 29-12-2020م)، وقد كان الخبر صادمًا وموجعًا للعالم العربي كله، وبالأخص لعشاق الدراما السورية، وبشكل خاص أكثر لمتابعي أعماله الدرامية، التي أبدع حاتم علي في صناعتها وإظهارها بأعلى مستوياتها طوال عمله مخرجا، ولا نغفل عن دوره أيضا في تمثيل بعض الشخصيات، فأبدع إخراجا وتمثيلا، رحمه الله.
ومن الجدير بالذكر أن المخرج الراحل كان يقوم بتصوير فيلم الزير سالم بطولة الفنان جمال سليمان، هذا العمل المنتظر الذي مضى عليه أكثر من عشرين عام، أراد حاتم علي إعادته إلى الذاكرة، وخلق حالة من الفضول والترقب للجديد الذي سيقدمه هذا المخرج العظيم بالتعاون مع قامة فنية كجمال سليمان، فمن المعروف أن الراحل ذو اسم رنان، فما إن يعرف المشاهد بأن مخرج العمل هو حاتم علي حتى تغمره الرغبة بمشاهدة العمل، إنه المخرج الذي لم يخذلنا أبدا..
إن المتابع لأعمال حاتم علي يرى فيه مخرجا ذا حس فني عال لا يختلف عليه اثنان، وصاحب نظرة ثاقبة ومهتما بكافة التفاصيل المحيطة بمشاهده، أعماله التي أدهشتنا على مدار سنوات تكشف عن عقل مثقف وصاحب فكر ورسالة واضحة، فهو المرآة التي عكست واقع الإنسان العربي بشكل عام والسوري بشكل خاص.
وغاص إلى أعمق نقطة يمكن أن يصل إليه، سواء في مشاهد الصمت أو الحوار، بل وجعل من التاريخ حكاية تمتع بالاستماع إليها وبمشاهدتها الصغيرُ قبل الكبير، فهو الفنان الذي يرسم الكلمات لوحات لا تميزها عن الواقع، وهو ما حدث حقيقة في مشهد اللجوء في مسلسل التغريبة الفلسطينية للكاتب وليد سيف، إذ ظن الكثيرون بأن المشهد كان حقيقيا وتم تصويره آنذاك، عدا عن مسلسل الفصول الأربعة الذي أصبح أيقونة للحنين إلى ذلك الزمان، حيث دفء العائلة والقيم النبيلة والمشاعر النقية الصادقة، وإلى الآن لا يزال مسلسل الزير سالم يحقق نسب مشاهدات عالية رغم مرور أعوام طويلة على عرضه، وصحيح أن حاتم علي غلب على أعماله المميزة الطابع التاريخي، إلا أن أعماله الدرامية لا تقل تميزا عنها، فقد لامست قلوب مشاهديها وشغلت حديث النقاد حتى اليوم.
بعد اندلاع الثورة السورية، انشطر الشعب إلى مؤيد ومعارض، وقد انعكس ذلك بالطبع على الساحة الفنية السورية، وكان هناك مشاحنات بين الفنان المعارض للنظام والداعم للثورة السورية وبين الفنان المؤيد للنظام، وتم تغييب الفنانين المعارضين عن الشاشة نظرا لشطب أسماء بعضهم من نقابة الفنانين السوريين، وهجرة آخرين بسبب التهديدات والملاحقات.
وقد كان حاتم علي واحدا من أولئك الذين شطبت أسماؤهم من النقابة، إلا أن ذلك لم يثنه عن الاستمرار في تقديم الأعمال التي تعتبر ثورة بحد ذاتها، إذ حملت في طياتها الكثير من الألم والمعاناة اللذين حملهما الإنسان السوري في قلبه وإن لم تكن ذات طرح مباشر، كالمسلسل السريالي قلم حمرة بطولة سلافة معمار وعابد فهد، والمسلسل ذي القصة الخيالية أروكيديا، كما أن الراحل جمع الفنانين في أعماله رغم خلافاتهم، طالبا منهم وضع الخلافات جانبا والتركيز على النقاط المشتركة بينهم ورسالتهم الفنية التي من الواجب عليهم تقديمها فوق كل الاعتبارات والظروف.
تميز حاتم علي بالكثير من الأعمال، خصوصا الأعمال التاريخية، كملوك الطوائف وصقر قريش، ومسلسل صلاح الدين الأيوبي، وكان الراحل قد صرح في أحد اللقاءات الصحفية بأنه عاشق للتاريخ، وحلمه يتمحور حول تقديم أعمال تاريخية للجيل الشاب تجذبه وتعرفه بتاريخه وحضارته وبالشخصيات التي تصلح للاقتداء بها.
وقد نجح في ذلك رغم الصعوبات التي كان يواجهها الراحل، من مسلسل الملك فاروق الذي منع في البداية من العرض، وصولا إلى مسلسل عمر بن الخطاب الذي أحدث ضجة كبيرة لتجسيد الصحابي الجليل عمر بن الخطاب، إلا أن حاتم علي كان قد حصل على الموافقة من هيئة علماء مسلمين، الذين أثنوا على العمل بعد أن اطلعوا عليه قبل البدء بتصويره مثل يوسف القرضاوي وسلمان العودة وعلي الصلابي وغيرهم.
إلا أن ذلك لم يحد من الاتهامات التي طالته بأنه يسيء للصحابة الكرام، لكن حدة الاحتقان قلت بعد عرضه واعتراف المعارضين للعمل بإعجابهم قبل المؤيدين للعمل، وهذا يدل على تفرد يتمتع به حاتم علي الذي بالفعل لم يخذل المشاهد العربي أبدا، إنه يتمتع باختيار دقيق للفنان الذي عليه تجسيد الدور فيبدو وكأنه خلق ليؤديه، كشخصية تيم حسن في الملك فاروق مثلا والذي اختاره لتأدية الدور على الرغم من أنه ليس مصريا، كما بلغت دقته في إخراج أعماله بأن جعل الفنان سامر إسماعيل يؤدي شخصية عمر بن الخطاب على الشاشة، بينما يؤدي صوت الشخصية الممثل الأردني أسعد خليفة.
لم يبهرنا حاتم علي في الأعمال السورية فحسب، إنما قام بإخراج أعمال مصرية أيضا، وقد كان أحد هذه الأعمال المسلسل المصري المشترك حجر جهنم، أيضا مسلسل أهو ده اللي صار تأليف عبدالرحيم كمال، بطولة روبي وأحمد داود ومحمد فراج وسوسن بدر وغيرهم، والذي أخذنا الراحل فيه برحلة زمنية شائقة، بين الماضي والحاضر، وبين الكلاسيكية والحداثة، ليخرج لنا لوحة درامية من أبدع ما يمكن وصفه، تجمع ما بين الإنسان المصري الذي عاش قبل مئة عام، والمصري الذي نراه بيننا اليوم، فتلحظ التغييرات التي طرأت عليه، إنه عمل يعبق برائحة الزمن الجميل التي تفوح بالشوق والحنين.
إنه لمن المؤسف رحيل مخرج كحاتم علي، في زمن تندر فيه الأعمال التي تترك أثرا لا يُمحى من الذاكرة الفنية، رحمه الله.