"أسمع صوت هطول المطر، أسمع صوت النصر، أسمع صوت صراخ وغناء، أسمع صوت النصر، النصر، النصر، النصر، النصر، النصر، النصر الآن في زوايا الجنة، الله يقول إنّ الأمر قد تمّ".
وسط معمعة نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية ظهرت
بولا وايت على صفحتها في "فيسبوك" وهي تحرك يديها، تصرخ، وتتمتم بكلمات لا نفهمها، تدعو للنصر وتبشر بالهزيمة القريبة. تداول الكثيرون المقطع وعبروا عن غرابة المشهد، قسيسة أمريكية تحدث الإله بلغة صاخبة، تسمع أصواتا وترى الجنة، ولديها أتباع أهمهم دونالد
ترامب.
تعد الإنجيلية من المجموعات الدينية المثيرة ليس فقط لتشكيلها أكبر كتلة مسيحية في أمريكا ولكن لأن هذه الفئة لا تزال تشكل حالة غرائبية تعبر عن اعتقادات وممارسات غير مألوفة لدى الكثيرين. فلا يزال
الإنجيليون يمارسون طقوساً خاصة ويتكلمون في صلواتهم بلغة غير مفهومة كما ظهرت بولا وايت في طقس يعرف بـ"التكلم بالألسنة" وهي لغة تنبثق أثناء الصلاة ويحظى بها خاصّة المؤمنين كما يعتقد الإنجيليون.
يُعرف الإنجيليون بالمجتمع الأمريكي كونهم أكثر المجموعات المسيحية تديناً وتعصباً في مقابل البروتستانت الليبراليين، ولا يحظى أتباعها بصيت جيد، ما يجعلهم يبدون أكثر سرية وغموضا. لا يعرف الكثيرون عن الإنجيليين تفاصيل أبعد عن دورهم السياسي المثير، ولكن برأيي أن هناك أمورا أخرى مثيرة لدى الإنجيليين تخص علاقتهم بالإله، وهي العلاقة التي يتمدد سحرها وقوتها عبر جميع النوافذ السياسية والاجتماعية وغيرها. إنها قوة الإله الصديق.
كيف تنشأ الصداقة
برزت الإنجيلية في القرن الثامن عشر مع ظهور الصحوة الدينية الكبرى في بريطانيا وأمريكا وهي حركة أصولية بروتستانتية يؤمن أتباعها بحرفية الكتاب المقدس باحثين عن الخلاص في ولادة جديدة. مرت الحركة ضمن تطورات تاريخية حتى انتهت في نسختها الحديثة متأثرة بازدهار الروحانية في أمريكا على مدى نصف القرن الماضي. خلال التطورات الدينية الحديثة، برز شكل جديد لعلاقة الإنجيليين بالإله قامت الأنثروبولوجية تانيا لورمان بتقصيها وتفسير تلك العلاقة وغوامضها من خلال دراستها الإثنوغرافية: When God Talks Back.
خلال سنتين، قامت لورمان بملاحظة الإنجيليين في كنيستين من كنائسهم وأقامت مقابلات مع أعضائها وهي تعتمد على نقل تجارب الأفراد الشخصية مع الإله وتعبير الأفراد عن تلك العلاقة الخاصة. تلاحظ لورمان أن أول ما يتنبه له الباحث الجاد عن صداقة الإله هو تمييز صوته عن صوت الإله، وتعلم متى يحضر ومتى يستجيب، حتى يعتاد حضوره ويميزه عن حضور غيره. ولكي تنشأ علاقة شخصية فإن على الإنجيلي بدء سلسلة من التخيلات، وتحويل الإله إلى شخص حي في ذهنه والاعتقاد به بكل يقين حتى يتحول هذا الشخص إلى صديق مع الوقت.
من خلال الطقوس الدينية المنظمة، تبني الكنيسة لأتباعها نظرية جديدة للعقل حيث يصبح باستطاعته تفسير أحداث عشوائية وتنظيمها بشكل مرتبط بكائن عظيم حاضر متجاوز لهذا العقل. تشجع الكنيسة أتباعها على التعامل مع الأفكار الاعتباطية كمنتج إلهي يجب التيقظ الدائم له، وتدعوهم لبناء أحلام يقظة يومية وشخصية عن الإله، لتتحول الحياة المفعمة بحضور الإله نحو المشاعر الشخصية بكثافة وعمق، وتقلل من حجم الانفصال بين العقل والواقع.
عشاء وكرسي فارغ
بعد العملية الذهنية التي تتأسس لدى الإنجيلي يصبح الإله كائناً حياً يعيش في يومياته وتفاصيل حياته. يعتمد الإنجيلي في ذلك على التظاهر والتكرار حتى يتحول الخيال إلى حقيقة "دعونا نتظاهر لجعل التظاهر حقيقة واقعة". تؤكد لورمان أن هذه استراتيجية حديثة توحي بوعي الإنجيلي بنفسه ورغبته في تحويل إدعاء ما إلى حقيقة لم يتهيأ بعد لقبولها. يعني هذا أيضاً أن المسألة بحاجة إلى ممارسة ومحاولات مستمرة لتحويل الفكرة إلى اعتقاد وحقيقة.
وعند الحديث عن الإله صديق الإنجيليين، فهو لا يبدو أقل حقيقة من أي صديق تجالسه وتتحدث معه في أرض الواقع. تبدأ مظاهر الصداقة من دعوة الإله أحيانا على قهوة ومجالسته وأحيانا ترك كرسي فارغ للإله الصديق. يخوض الإنجيليين حواراً حقيقياً مع الإله الصديق الذي بدوره يقدم نصائحه في أصغر تفاصيلهم كاختيار قميص للعمل أو اختيار قصة شعر مناسبة.
بل يبدو الإله معشوقا أكثر من كونه صديقاً في كثير من الأحيان وخاصة بين النساء اللواتي يتحدثن فيما بينهن عن خطط مواعدة في المساء، حيث تخرج المرأة في موعد عشاء فقط مع الإله لقضاء سهرة مليئة بالضحكات والحكايا والأسرار الخاصة. أما الرجال فهم يتحدثون عن "الوقت الهادئ" في المساء، وهو الوقت المخصص لحوار هادئ مع الإله وتقديم الصلوات له.
لا تقتصر ظاهرة الإله الصديق في عقول الإنجيليين ومشاعرهم المتوجهة للإله، ولكن تؤدي هذه العلاقة إلى تجارب ملموسة حدثت لكثير منهم. تشارك الإنجيلي حواسه السمعية والبصرية وأحيانا حاسة الشم بجانب التجارب الروحية المكثفة فقد يرى الإنجيلي الإله ويسمع صوته وهو يحدثه بشكل شخصي. يؤكد أصحاب تلك التجارب كونها حقيقية، أي أن مصدرها خارجي، باستطاعتهم تمييزها عن أي تجربة بشرية أخرى.
هل هم مجانين؟
ماذا يحدث عندما نجلس بجانب شخص يتحدث بصوت عال إلى نفسه؟ نحن لا نتردد بإضافة وصف "مجانين" لأشخاص يسمعون أصواتا ويتحدثون إلى صديق معتقدين وجوده حقيقة بينما لا يرى الآخرون أي شيء، ولكن ماذا عن هؤلاء الإنجيليين، هل من تفسير منطقي لهذا الشكل العميق من التجارب الروحية؟
لا تعد الإجابة عن سؤال كهذا بالمهمة السهلة، وخاصة لدى الأكاديميين الذين اعتادوا على تقديم التفسيرات العلمية للظواهر الدينية ونزع السحر عنها. إلا أن لورمان تعترف أن الإيمان بالإله يغير من كل المعادلة، إذ إن جميع ما يحصل مع الإنجيليين والذي قد يضعه علماء النفس تحت خانة "الهلوسة"، لم يكن ليحصل في الأوضاع الطبيعية دون إيمان بالإله وبعالم متجاوز لعالمنا الملموس، وهذا ما لا يستطيع العلم تفسيره. ولكن مع ذلك، لاحظت لورمان أن تلك التجارب الروحية تختلف من شخص لآخر من أصحاب الإيمان المشترك وأن مشاركة الحواس في التجارب الروحية تزداد بين الأشخاص الأكثر إيماناً وتكراراً للطقوس الدينية، والذين يشكلون مع الوقت "تحيزاً إدراكياً".
تعتمد الطقوس الدينية المنظمة لدى الإنجيليين على التخيل وتمرين الإدراك العقلي على التواصل الروحي ودعوة المؤمن للوصول إلى الإله وانتظار انكشافه، وهذا يجعل من المؤمن أكثر رغبة في تأويل أي عوارض غير مفسرة لديه بما يتناسب وطموحه المرتبط بالإله بشكل دائم. يتمرن عقل الإنجيلي في تنظيم المعلومات المتدفقة لتسمح له في رؤية الصور وسماع الأصوات المتحيز لها بشكل مسبق والتي تعبر عن إيمانه أكثر من كونها تعبيراً عن العالم. لا تعد هذه الحالة منفصلة عن الظروف الاجتماعية والتي تمثّل ثقافة الشعب الأمريكي وتلامس التغيرات التي يمر بها شكل العائلة وشكل العلاقات في المجتمع.
تتعزز علاقة الكثير من الإنجيليين بالإله الصديق في ظل فترات الوحدة والأوقات التي لا يمكن لأحد من البشر مشاركتهم بها. لا تفسر الوحدة دوافع الإيمان بالإله ولكن قد تخبرنا عن سبب التعلق الشديد به وتحويله إلى صديق شخصي يدخل في أدق خصوصيات الإنجيلي. تضيف لورمان إلى أن فكرة الشك التي تهدد الإيمان كلما كبرت وجهت المؤمن نحو التمسك الشديد في الشيء الذي يخاف فقدانه. يساعد الإلحاد ورفض الإله واتهام المؤمنين والسخرية منهم أحيانا في خلق الأمان البديل لديهم والتمسك به وجعله حاضراً في الحياة لكي تصبح أكثر تقبلا.