في زحمة الشوارع حول المجمعات التجارية وفي طول الطوابير عند العلامات التجارية المعروفة والمغمورة، رغبة في الظفر بعرض جيد وأسعار منخفضة، ربما لا يعرف الكثير أن
الجمعة السوداء هو الاسم الرسمي ليوم الجمعة الذي يلي عيد الشكر في الولايات المتحدة الأمريكية. ويعود تقليد عيد الشكر إلى الاحتفال بالحصاد وبداية موسم الأعياد الذي كان أول من سنَّ الاحتفال به الرئيس واشنطن عام 1789 بطلب من الكونجرس.
أما المستعمرون البريطانيون الأوائل فقد احتفلوا بالحدث الذي يطلق عليه الأمريكيون عادة (عيد الشكر الأول) بعد حصادهم الأول في العالم الجديد في أكتوبر 1621. استمر هذا العيد ثلاثة أيام، وحضره معهم 90 من الأمريكيين الأصليين و53 مستعمرا. اعتاد المستعمرون في نيو إنجلاند على الاحتفال بانتظام بأيام (الشكر) من أيام الصلاة، وشكر الله على النعم، مثل النصر العسكري على الأمريكيين الأصليين أو نهاية الجفاف.
كان أول ظهور لمصطلح الجمعة السوداء في الرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 1869، عندما حاول تاجرا البورصة جيمس فيسك وجاي جولد السيطرة على سوق الذهب في بورصة نيويورك، قبل أن تتدخل الحكومة وتغرق السوق بالذهب مما أدى إلى انهيار سعر الذهب وخسارة العديد من المستثمرين والتجار. ثم منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين قام أبراهام لينكولن كرئيس الولايات المتحدة الأمريكية بوضع تقليد للإعلان عن عيد الشكر كل آخر خميس (الخميس الرابع أو الخامس) من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر كل عام، ثم تغير هذا عام 1939 عندما كان يوم الخميس هو اليوم الأخير من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، وخشي التجار وأصحاب المحال التجارية أن يتأثر موسم البيع ففاوضوا رئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت على أن يقدَم عيد الشكر أسبوعا حتى لا يخسروا الموسم. في السنين الثلاث التي تبعت هذا العام سمي عيد الشكر بـ"عيد شكر فرانلكين". ثم في عام 1941 قام مجلس الكونجرس بالتدخل وتحديد الخميس الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر كل عام عيدا للشكر. وهكذا تحددت الجمعة السوداء.
في 2001 حصل يوم الجمعة السوداء على أكبر مبيعات خلال العام كاملا، وبعدها انتشرت الجمعة السوداء تدريجيا إلى الدول المجاورة، مثل كندا وأمريكا اللاتينية وأوروبا وغيرها.
يظل يوم الجمعة الأسود مثيرا للغاية للمتسوقين، ففي مثل هذا اليوم، تظهر ثقافة
الاستهلاك المفرط في أمريكا تحديدا. لكن ما يغيب عن أذهاننا أن الجمعة السوداء تدور حول الذي لا نراه خلف الأبواب المغلقة، عودة إلى رؤية المنظرين الأوائل للرأسمالية من مبالغة في حمى
التسوق.
يشير كارل ماركس في حديثه حول رأس المال، إلى أن الثروة "تقدم نفسها كتراكم هائل لتوافر السلع". وهنا تظهر فاعلية
الرأسمالية وقدرتها المفرطة على الإنتاج، وكيف استطاعت أن تخلق مجموعة من "الاحتياجات الجديدة" التي لم نكن نعرف أنها كانت لدينا. ويقدم المشهد التجاري الذي نعيشه في هذا اليوم مبالغة بصرية في عرض المنتجات الجذابة ذات الأسعار المغرية والإعلانات اللامعة وعرض للأسعار بطريقة تلاعبية، ولكن كل هذا ليس إلا لإخفاء وتغطية منظومة صناعية اجتماعية واقتصادية واسعة للإنتاج والتبادل تحتها. هذا الوهم هو الذي أدى إلى تأليه السلعة.
ابتداء من المجتمعات الزراعية التي أنتجت لنا عيد الشكر، وكما آدم سميث مؤسس الاقتصاد الكلاسيكي، ذكر في كتابه ثروة الأمم، أنه ليس من خير الجزار أو الخباز نتوقع أن نتناول عشاءنا، ولكن من وجهة نظرهم الخاصة، فنحن نتصور أن هؤلاء المنتجين الصغار يشترون ويبيعون بضاعتهم في بعض الأسواق ما قبل النهضة الصناعية، وكان كل مشتر يعرف من أين أتى اللحم والخبز وجميع أنشطة السوق التي تتجذر في تبادل عمل الفرد، وفي هذا بناء لأساس المجتمع نفسه.
بعد مرور ما يقرب من قرن على سميث، ظهرت الآلات الصناعية والإنتاج المبالغ فيه. وكانت الثورة الصناعية في وقت تلاشت فيه أصول الإنتاج. اليوم، أصبحت شبكة الاتصالات العالمية بين المنتجين والمستهلكين أكثر مراوغة. عندما نرى تلك الصفوف المذهلة من أجهزة iPad في متجر Apple Store ، فإننا لا نرى كل أشكال الجهد والتجميع التي قامت بها النساء الشابات في مصنع ما في الصين. وفي المقهى، لا نرى المكسيكي الذي يحصد حبيبات القهوة، أو سائقي الشاحنات الذين ينقلون القهوة الخضراء شمالا. إن علاقتنا كمستهلكين بالمنتجين باتت مقطوعة، لكن مع هذا تبقى المنفعة حقيقية تماما مثل جزار سميث الخيالي الذي يشتري الخبز من الخباز.
لكن حتى لو علمنا كيف تمت صناعة المنتج، فمن المستحيل رؤية أو تجربة هذه العلاقات بطريقة اجتماعية هادفة، وهذا هو السبب في أن النمط الاستهلاكي يعرض مجتمعاتنا إلى مشكلة أخلاقية. علاقاتنا مع الملابس والأحذية البراقة، والتهمة للجمعة السوداء نفسها، هي علاقات فورية قصيرة الأمد وغنية بالحواس وجذابة، لكن علاقاتنا مع البشر الذين يصنعون أشياءنا أصبحت مجرد معلومة أو فكرة مجردة سمعنا عنها ولا نستطيع تجربتها أو الإحساس بها. وفي مجتمعات العالم الاستهلاكية، وخاصة في هذا اليوم من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، يكون مقصودا إخفاء هذه الحقيقة البسيطة.
عندما تكون العملية الشرائية والاستهلاكية ما بين الشركات والمستهلك تعتمد على التصنيع المتزايد وإغراق السوق بالسلع البراقة واستخدام وسائل التسويق والترويج، تصبح الشركات مجبرة على التصنيع والمستهلكون لا يرون سببا يدفعهم إلى عدم الشراء بسبب تدني الأسعار، وهذا يعرف بتدني تكلفة التصنيع للتصنيع المتسلسل أو عالي الكثافة (mass production) حتى تقترب كلفة المصنع من الصفر. وهنا تنتفي أي قيمة إنسانية أو أخلاقية لتؤطر عملية التصنيع أو الشراء من قبل المستهلكين، بسبب غياب حلقة الوصل المتمثلة بالعلاقة مع المنتِج الفعلي أو العمالة التي تُشعِر المستهلك بقيمة السلعة التي يشتريها؛ ليس من ناحية مادية فقط وإنما من ناحية معنوية مرتبطة بالإنسان الذي صنعها. فحينها يكون من غير المنطق أن يشتري أكثر من حاجته أو أن يتحول استهلاكه إلى سعار محموم من الشراء عند تدني الأسعار.
أصبح يوم الجمعة الأسود معركة سنوية حول ما يجب أن تكون عليه الرأسمالية الأمريكية، ومن يجب أن تخدمها كنقطة مضيئة في حرب ثقافية لا تنتهي أبدا. يميل اقتصاد اليوم بالكامل تقريبا نحو المستهلك.. المستهلك هو المواطن الرأسمالي، الذي يتمتع بحق وسلطة، وقد تم التخلي عن العامل ونقاباته. على سبيل المثال، ترغب أمازون في أن تصبح "الشركة الأكثر مركزا على العملاء في العالم"، وكل ذلك أثناء الانخراط في ممارسات العمل المشكوك فيها. ويعتقد هنا المستهلك أنه صاحب سلطة حقيقية، ولكن الحقيقة المخفية هي عكس ذلك. فبالنسبة إلى الشركات العالمية التي لا تفتأ تقوم بالاندماج شيئا فشيئا لتتحول إلى إمبراطوريات تفوق ميزانيتها دولا مجتمعة، يمثل المستهلك بالنسبة لها وسيلة ليس إلا، وعليها أن تتلاعب به وتقوم بسياسة التجهيل المتعمد، وإيهامه بأنه صاحب القرار والمستفيد الأكبر.
في الواقع، يمكن أن يصبح التشويق الاستباقي للتسوق يوم الجمعة السوداء الذي أسماه عالم الاجتماع إميل دوركهايم "الانفعال الجماعي"، وهي حالة تتضافر فيها جهود الأفراد في المجتمعات - مثل النحل في خلية - لتحقيق هدف نبيل، مثل تمكين العمال مثلا، بدل تفريغ أرفف المحال لتجارية من البضائع.
أصبح يوم الجمعة الأسود يوما لصيد السلع والعروض، ولكن أيضا للنقد الثقافي والنشاط العمالي والمقاطعات السياسية أيضا. وفي النهاية سواء كنا نتسوق أم لا، يجب ألا يغيب عن بالنا تحول السلع المتراكمة على الأرفف والمواقع الإلكترونية إلى أصنام نسعى لتأليهها وتحدد في كثير من الأحيان كينونتنا. ولكن إذا كان ماركس الاشتراكي قد انتقد يوم الجمعة السوداء أكثر من اللازم، فماذا عن أبراهام لنكولن الأمريكي الذي قال في أول خطاب سنوي له كرئيس في عام 1861: "إن رأس المال هو ثمرة العمل فقط، ولم يكن ليُنشأ أبدا لو لم يكن العمل موجودا".
هذا اليوم هو مناسبة جليلة تجعلنا نتذكر أن النظام برمته، ذلك الذي أنتج الجمعة السوداء، مبني حقيقة على العبقرية البشرية والكدح، وأن العمل البشري، وليس الأصنام الزائفة ليوم الجمعة السوداء، هو مصدر الثروة الحقيقية للمجتمع.