كتاب عربي 21

المِسْكُ فاح

شريف أيمن
1300x600
1300x600

يقول حسان بن ثابت رضي الله، وكان ابنَ سبعِ أو ثمانِ سنين يومئذ: إني لَعَلَى فارِعٍ (مكان عالٍ) وهو أُطُم (حصن مبني بالحجارة)، في السَّحَر، إذ سمعتُ صوتا لم أسمع قَطّ صوتا أَنْفَذَ منه، فإذا يهوديّ على أُطُمٍ من آطام المدينة معه شعلة من نار، فاجتمع الناس إليه فقالوا: ما لكَ ويْلَك! فقال: هذا كوكب أحمد قد طلع، هذا كوكب لا يطلع إلا بالنبوة، ولم يبق من الأنبياء إلا أحمد.

فهذا سيد الأنبياء تخرج الكواكب خاصَّة بِشارة بمَقْدِمه الشريف، وهذا السيد الذي تُضاء الدنيا فرحا بمولده، وهذا الرسول الذي تُخمَد له نيران الباطل وقد أضاءت قبله ألف عام.

هَذا الذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ  وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

هَذا ابنُ خَيرِ عِبادِ اللَهِ كُلِّهِمُ   هَذا التَقِيُّ النَقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ

هَذا اِبنُ فاطِمَةٍ إِن كُنتَ جاهِلَهُ   بِجَدِّهِ أَنبِياءُ اللَهِ قَد خُتِموا

وَلَيسَ قَولُكَ: مَنْ هَذا؟ بِضائِرِهِالعُرْبُ تَعرِفُ مَن أَنكَرتَ وَالعَجَمُ

كان القوم في الجاهلية، كما قال عمرو بن مُرَّةٍ، "يجمعون بين الأختين، ويخلُفُ الرجل على امرأة أبيه، ويغزون في الشهر الحرام"، فشرَّفهم ربهم بمن استنقذهم من الانغماس في الرِّجس، وضلالة الشهوات، وشرفهم بالسيد ابن السادات، الذي لم يزل يتقلب في أصلاب الطاهرين والطاهرات من لدن آدم عليه السلام إلى أبيه عبد الله بن عبد المطلب، فقال عن نفسه: "خرجت من نكاح ولم أخرج من سِفَاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء"، فكان صلى الله عليه وسلك طاهرا مُطَهَّرا مُذْ خلق الله البشر وأسجد لأولهم الملائكة.

هو عين الوجود، إذ لولاه لم تُخرَج الدنيا من العدم، لأجله ابتدأ الله الخلقَ، وبه تنتهي وحشة المحشر، وباسمه يستشفع المرسلون، ولأمته يقف شافعا وهو الأرأف بهم من آبائهم وأمهاتهم، لا يزال منشغلا بأمته حتى بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فقال أزكى المخلوقات: "حياتي خير لكم تُحدِثون ويَحدُث لكم، ووفاتي خير لكم، تُعرَض عليَّ أعمالكم فما رأيت من خير حَمِدتُ الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم"، فلا يزال في استغفار لأمته منذ أن ابتعثه الله إلى أن يدخل آخرها الجنة، صلى الله عليه وسلم.

أرأف الناس بالضعفاء وذوي الحاجة، وأشجع خلق الله طُرّا، يقول حَيْدَرة ذو البأس وصاحب لواء رسول الله: "كنا إذا حميَ البأس، ولقيَ القومُ القومَ، اتّقَيْنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحدٌ أقربَ إلى العدو منه"، فمَنْ غيره جمع بين الرأفة التي لا تتناهي، وبين البأس دون توارٍ في قتال؟ قال عن نفسه أدبا وتواضعا: "إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد ببطن مكة"، وقال فيه صاحب البُردة:

ومَن تَكُنْ برسول الله نُصْرَتُهُ   إنْ تَلْقَهُ الأُسْدُ في آجامِها تَجِمِ

كان مولده صلى الله عليه وسلم هداية ورحمة، وكانت حياته أُنْسا وبركة، وكان موته الفاجعة العظمى، لكن ما بين المولد والانتقال إلى الرفيق الأعلى رحلة تمام الهداية للبشرية جمعاء، فهو القائل: "مَثَلي ومَثَل الأنبياء من قبلي، كمَثَل رجل بنى بنيانا فأحْسَنَه وأَجْمَلَه، إلا موضع لَبِنَةٍ من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وُضِعَتْ هذه اللَّبِنَة، قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين".

أتمَّ الله به إرسالات السماء، وبانتقاله انقطع الوحي عن الدنيا فانحسرت بركتها وإن بقي ضياء ما بثّه فيها، لم يأتِ نبي إلا لقومه ليعالج خللا أصابهم، وما أن ينصلح العيب أو يُستبدل القوم، يأتي نبي آخر ليصحح اعوجاجا جديدا أصاب قوما ائتلفوا على معصية أو فطرة منتكسة، كمن ائتلفوا على التطفيف في الميزان، أو من ائتلفوا على الشذوذ، ثم جاء الخاتم ليتمم الله به مكارم الأخلاق، وليرسم طريق الهداية إلى رضا رب الكون، وليهتدي بنوره من استجاب لقَبَسِه المنير، فأصبحت الخلائق على بينة من جادّتيْ الحق والزيغ، وكل ما أصاب الطريق من غَبَش يأتي ورثة قَبَس الهداية ليضيؤوا ما أظلم عن الخلق أجمعين.

كانت مجالس المصريين تبدأ بالمديح، وسير المغازي تبدأ بالمديح، وتقام أيام ذكرى مولده الشريف أو مولد آل بيته الأطهار بذكر مناقبه ومدحه، ثم طرأ طارئ البِدَع الذي أنكر على الأمة ماضيها وضيّق عليها حاضرها، فصرف الناس عن المحاسن إلى الغِلظة، وصرف المحبة والمودة إلى قيود البدع والضلالات، وصرف القربى بالتزاور إلى التفسيق والتكفير، وما أحوج المحبين إلى ذكر المحبوب، وما أبعد الجافي عن القرب.

في ذكرى نبينا العطرة نستذكر قول القائل "المسك فاح لمّا ذكرنا رسولَ الله"، وعَلِمَ الله أن نَسَمات الخير تأتي بصحبته، وصحبتُه في ذكره، يقول الكريم: "إن الله وكل أعطى ملَكا من الملائكة أسماع الخلائق، فهو قائم على قبري إلى يوم القيامة، فلا يصلي عليّ أحد صلاة إلا قال: يا أحمد، فلان ابن فلان يصلي عليك، فيسميه باسمه واسم أبيه، فيصلي الله عليه مكانها عشرا"، ولهذا يعلمنا أهل السلوك والأدب، أن "من أراد أن يُعرَف يوم القيامة باسمه عند رسول الله، فلْيُكْثِر من الصلاة عليه، ليتردد اسمك عند مسامعه، فيعرفُكَ يوم لا ينفع مال ولا بنون".

إنْ لمْ يَكُنْ في مَعادِي آخِذاً بِيَدِي   فَضْلا وٍإلا فقُلْ يا زَلَّة القَدَمِ

حاشاه أنْ يَحْرِمَ الرَّاجي مَكَارِمَهُ   أو يَرْجِعَ الجارُ مِنْهُ غَيرَ مُحْتَرَمِ


twitter.com/Sharifayman86

التعليقات (1)
أحمد النسناس
الأربعاء، 04-11-2020 08:27 ص
صلى الله على سيد السادات حبيب الحق ورحمة الله للعالمين