هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يتقدّم أشعب العديد من الشخصيات الفكاهيّة في التراث العربيّ، فهو أحد أشهر من ذُكِر في العصر العباسيّ بخفّة الظل والبخل والطمع والشره في حبّ الطعام إلى حدّ جعله في الذاكرة الجمعيّة العربيّة مضرب المثل في ذلك، فيُقال في المثل العربيّ "أطمع من أشعب"، وهذا المثل من السياقات القليلة التي تُوظّف فيها شخصيّتُه لأمرٍ جاد.
ولعلّ مما يلفت النظر في التعامل الجمعيّ مع مثل هذه الشخصيّة هو أنّ الناس يتناقلون أخبارها وصفاتها وأفعالها ويسخرون منها وهم في الوقت نفسه يتقبّلونها على ما هي عليه، فذكر أشعب أو من ماثله من الشخصيات الفكاهيّة كأبي دُلامة لا يستدعي استحضار المواعظ الأخلاقيّة ولا ما يعبّر عن النفور من أبعاد الشخصيّات الشكليّة الجماليّة أو السلوكيّة الأخلاقيّة، فهو مادةٌ للضحك والمتعة بالدرجة الأولى.
ويقبل المخيال العام حكاياتٍ عنه يصعب تصديقُها باعتبارها أمرا صحيحا على مستوى الحقيقة التاريخيّة، فعلى سبيل المثال، يُذكر أنّ أشعب أراد أن يطرد مجموعة من الصبية اجتمعوا حوله يلعبون وأخذوا يضايقونه، فقال لهم ليبعدهم عنه: هناك، في الجهة الأخرى من الطريق، جماعة من الناس يوزّعون الجوز والتمر على المارّة، فلمّا رآهم يركضون في الاتجاه الذي أشار إليه قام وركض معهم وقال في نفسه: لعلّ ذلك يكون صحيحا!
هذه القصّة تجعله في غاية الغباء، فقد كذّب الكذبة وصدّقها على الفور، وهو نفسه الذي يحضر مجالس الأمراء وعلية القوم ليمتّعهم بذكائه وحسن عباراته. هذا التناقض ليس أمرا مهما في هذه المرويّات مقابل ما يقدّمه ذكرُه من ضحكٍ وتسلية.
يوظّف الناس مثل هذه الحكايات على أنّها طُرف وقصص ساخرة لا تنتمي إلى منطق الفعل الحقيقيّ، ولذلك قلّ من يُخضعها للتدقيق أو المراجعة الفاحصة، وكلّ ما يهمّ منها هو هذا الحسّ الساخر والمثير للضحك.
وشبيه بذلك أنّه رأى رجلا يصنع طبقا، فأخذ يقترح عليه ويشجّعه ليوسّعه ويزيّنه أكثر، فالتفت إليه الرجل وقال له: ولماذا تريد ذلك وهو ليس لك؟ فقال أشعب: لعلّ من يشتريه منك يهديه إليّ، فيكون بهذا أنفع لي وأحسن!
اقرأ أيضا : فيلم علاء الدين.. القصة العربية كما ترويها هوليوود
ومثل هذه القصص تتجاوز عن المبادئ الأخلاقيّة التي تمنع التعليق على أشكال الآخرين وهيئاتهم، فوصْفُ شخص مثل أشعب بأنه كهيئة الشيطان ليس فيه عيبٌ أو ملامة.
ومن ذلك ما ورد من قصص أشعب أنّه كان خالَ الأصمعيّ الراوية المشهور في التراث العربيّ، فقيل إنّ الأصمعي أحضر هريسا ليطعم خاله أشعب، فأكل هذا الأخير كلّ ما في الطبق وكان كثيرا تعجز عنه جماعة من الرجال، وعاد الأصمعيّ إليه بعد سويعات، فرآه مصفرّ الوجه كثير العرق وقد ربط على رأسه قطعة من القماش، فناداه وقال له:" إنّي أرى أنّ الشيطان ليتمثّل على صورتك" (وثمة رواية أخرى لهذه الحكاية تجعلها مع عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان).
ومما لا شكّ فيه أنّ مثل هذه الشخصية تتصف بفصاحة عالية وقدرة فريدة على حسن التخلّص وحضور البديهة والجواب السريع.
فيُذكر أنّ أشعب كان مسافرا من المدينة المنوّرة إلى مكّة، فغلبه الجوع حدّ الهلاك، فرأى جماعة من الناس يفترشون في ظلّ شجرة ويبسطون طعامهم، فأقبل عليهم دون معرفة له بهم، فقال لهم:
السلام عليكم يا معشر اللئام، فرفعوا أبصارهم إليه وقالوا في نفس واحد: لا والله بل كرامٌ وأبناء كرام. فثنى رجله في الحال وافترش الأرض ودسّ نفسه بينهم وهو يقول: اللهم اجعلهم من الصادقين واجعلني من الكاذبين! ثم مدّ يده في القصعة التي أمامهم وهو يقول ماذا تأكلون يا قومُ؟ فأرادوا أن يصدّوا هجومه على الطعام، فقالوا: نأكل سمّا، لأننا قررنا أن نتخلّص من تلك الحياة ونموت.
فملأ أشعب فمَه بالطعام الذي في القصعة وهو يقول: والله إنّ الحياة بعدكم حرامٌ، دعوني أموت معكم، وراحت يده تجول في القصعة كما يجول الفارس في الميدان.
ثمّ التفتوا إليه وقال قائل منهم: يا رجل، هل عرفت منّا أحدا حتى تهجم على طعامنا هكذا؟ فأشار بإصبعه إلى ما في القصعة وقال: والله لقد عرفت هذا، وما عرفت عمري غيرَه!
تشترك هذه الحكايات عبر ما تتصف به من الجرأة الحادة والفصاحة وحضور البديهة مع مرويّات التراث العربيّ عن التطفّل والبخل والظرف، كما تظهر في المقامات وكتاب البخلاء وكتاب المستطرف في كلّ فن مستظرف وسواها.
وكلّ هذه القصص تجعل ذكاء المتطفّلين والظرفاء سبيلا إلى الإضحاك وليس سببا كان من الممكن أن يوظّفه المتطفّلون ليكونوا من أصحاب المال والمكانة العالية في المجتمع.
ولهذا يمكن النظر إلى هذه الشخصيّات على أنّها تعبير عن بحث المجتمع لإنشاء سرديّات مسليّة ومضحكة، وهي مختلفة تماما عن الطرفة التي تهدف إلى نقد اجتماعيّ أو سياسيّ أو أخلاقي، إنّها قصص تهدف أوّلا وأخيرا إلى الضحك.
حتى النصيحة التي يقدّمها أشعب تخدم أهداف الضحك والمتعة، فنقرأ أن أحد المتطفّلين الجدد في مجالسهم طلب من أشعب أن يعينه على دخول عرس قريب منهم ويعلمه أن ينتفع أكثر من طعامهم، فقال له أشعب، أقبلُ ذلك على أن تطيعني دون سؤال أو كلام، فقبل وذهبا إلى العرس وقال لصاحبه: ادخل بجرأة ولا تلتفت إلى الحارس فيعرف أنك غير مدعو، واجعل نفسك من أهل العريس إذا طرح عليك أحد من أهل العروس السلام، أو من أهل العروس إذا سلّم عليك من هو من أهل العريس. ولمّا جاء الطعام قال أشعب لتلميذه: لا تأكل غير لقمة، وانتظر حتى يأتي الطبق الكبير، فلما جيء بالطبق قال لصاحبه ما يعني أقبل على الطعام واجعل كلّ لقمتين في مضغة واحدة، وإذا متّ وأنت تأكل من هذا فأنت شهيد!