إن "نزيف الحوار حول الهوية" بدا لي من الصعب إيقافه أو توقفه، في حوار استمر طيلة قرن أو يزيد. ويبدو لي أن التعاطي مع قضية الهوية لا يزال بعيدا عن النضج الواجب والعمق اللازم؛ ومن المهم في هذا المقام التعرض لدرسين من دروس الهوية والبحث فيهما، أحدهما يتعلق بوعي الهوية، والآخر يتعلق بالتربية على الهوية؛ أما الوعي بالهوية فهو يشمل عناصر ثلاثة:
الأول- منها يتعلق بأسئلة الهوية الحقيقية لا الزائفة، وقال الحكماء: إن السؤال الصحيح نصف الإجابة أو الاستجابة. من نحن؟ ماذا نملك؟ ماذا نأخذ أو نرفض (الميزان)؟ على أي أرض نقف؟ أسئلة بعضها من بعض تشكل الإجابة الواعية الفاعلة لها.
الثاني- ضرورة توفير العناصر الأساسية لما أسماه الحكيم البشري "التيار الأساس" القادر على الإمساك بوعي بالنواة الصلبة لقضية الهوية، وتحديد الأصول الحوارية في القضايا المصيرية والحضارية الكبرى.
الثالث- ثقافة السفينة التي تقوم على قاعدة من الوطن المشترك والمصير المشترك والعيش المشترك؛ والبحث في خروقات سفينة الهوية التي تكاثرت وتراكمت بما يؤدي إلى عاقبة الغرق والهلاك: إن أصغر خرق في سفينة الهوية لا يعني إلا أوسع قبر للجماعة بأسرها، فالأمر أمر جد لا هزل.
كل ذلك يوفر البيئة الأساسية الحافظة للهوية القاعدية؛ أساسا وجوهرا، وهو مفضٍ لتأسيس عناصر الوعي بالهوية (وعي بالذات، وعي بالغير والآخر، وعي بالموقف)، في تفاعل بين منظومة الوعي وشبكته التي تسهم في بناء
المجتمع والحفاظ على شبكة نسيجه الاجتماعي والحضاري.
لا ينظر الإسلام إلى
المواطنة (بمفهوم إسلامية المسلم في مجتمعه الخاص) على أنها حركة مغلقة، بل هي حركة منفتحة؛ فإقامة المجتمع المسلم المتماسك يستهدف الانفتاح على ما وراءه انفتاحاً إيجابياً. (يأخذ في اعتباره معاني الغيرية واعتبارها، والتعامل مع معاني التمايز بمقامها وشروطها، نافية لكل استبعاد، وناهضة بكل مسالك الاستيعاب وآليات التعارف بما يقتضيه من تشارك وعيش واحد مشترك).. إلى المجتمعات المسلمة للتوحد معها والإسهام في حمل همومها، وإلى المجتمعات الأخرى للإسهام في إعلاء القيم الإنسانية التي تحقق للعالم تعايشاً سلمياً وتفاعلاً حضارياً نافعاً وتعارفا إنسانيا راسخا فياضا.
إن الإسلام لم يأت ليمنع ما فُطر عليه الناس، لكن ليهذب ذلك المعنى وذلك السلوك؛ فهو يعترف بعملية الانتماء الاجتماعي للأسرة (ادعوهم لآبائهم) والقبيلة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) والدولة (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه) وجعلها أحد مقاصد الحياة الاجتماعية. ونسب القرآن الرجل لبلاده، ولكنه في الوقت ذاته أكد على لسان رسوله صلى الله عليه واله وسلم أنه "ليس منا من دعا إلى عصبية" أو جاهلية أو قومية، وأحداث السيرة مليئة بشواهد كثيرة في هذا المعنى.
ضمن هذه الرؤى جميعا والتي تتكافل وتتساند مع بعضها البعض، يمكن رؤية هذه العلاقة بين الشريعة والمواطنة، فتعطي لكل منهما حقه الواجب في صياغة الجماعة الوطنية، وتأصيل حقيقة علاقاتها التعاقدية القائمة على مرجعية الشريعة كقواعد نظام عام، وجامعية المواطنة كقاعدة لتشكيل أهم عناصر وأواصر النسيج الاجتماعي، عبر الوطن والمواطنة. كل تلك إشارات مهمة في الدرس الثاني المتعلق بالتربية على الهوية والمستلزمات المتعلقة بذلك.
من الجدير بالذكر أنه قد يحتج البعض بحقوق الإنسان على الشريعة، فيؤكد أن
حقوق الإنسان تمثل مرجعية في هذا المقام من غير حاجة للتأكيد على مرجعية الشريعة. ومن نافلة القول أن نؤكد على أن هذا الأمر قد يكون صادقا في حالة أن الشريعة لا تقدر حقوق الإنسان أو تقف في مواجهتها أو تتناقض معها، ذلك أن الشريعة تجعل من حقوق الإنسان من مرجعياتها الكلية الفرعية (المنظومة الإنسانية، المنظومة الحقوقية) فيكون هذا قسيما للشريعة، لا ينافيها ولا تنفيها.
ومن هنا تكون الحجة التي تتعلق بمرجعية الحقوق الإنسانية كحجة نافية للشريعة أمرا لا يجد له أي سند ولا يستند إلى حجة، فإن الحقوق سواء تلك التي تتعلق بالتأسيس أو بالحقوق السياسية والمدنية أو بالحقوق الفردية والاجتماعية أو بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو بالحقوق الجماعية أو الحقوق التي تتعلق بعمليات كلية (التنمية، المعرفة، البيئة).. إنما تجد مكانها اللائق ضمن مرجعية الشريعة، وهي من أمور
السياسة التي أشار إليها ابن القيم حينما نقل ذلك الحوار بين شافعي (من الشافعية) وأستاذه ابن عقيل، حينما دار ذلك الحوار حول السياسة، وهو أمر يوضحه أكثر فأكثر قول الشاطبي باعتماد السياسة الشرعية ما حققت المصلحة وما أكدت عليها، وقول "العز بن عبد السلام" في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" ليؤكد هذا أن القواعد الكلية التي أرادها لم تكن لعالم المسلمين فحسب وإنما كانت لمجمل الخلق.
ومثل ذلك أن المواطنة وكذا الديمقراطية هي مفاهيم علمانية وفدت من الغرب من الأساس، ولكنها من مفاهيم الموقف قد تشتمل على نفع الإنسان وتحقيق مصالحه؛ وتناسى هؤلاء أن الدين بما يمثله من حفز لقيم التماسك والجامعية إنما يشكل رؤية للمواطنة، تحقق أصول هذه الرابطة السياسية وفق قواعد وسنن تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبما يؤكد معاني الجامعية فيها. وإذا لم تتأكد العلمانية شرطا في هذا المقام، فإن الدين لا يعد مناقضا للمواطنة عند الحديث عن تأسيس المجتمعات وتشكيل شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية.
وكذلك معنى العيش الواحد في إطار يؤسس للاندراج في الجماعة الوطنية عبر المواطنة لتأصيل العيش الواحد والنسيج الاجتماعي الواحد عبر آلية الحوار، لبلوغ هذا المقصد التأسيسي، في إطار يؤصل العيش المشترك والتعارف. فالعيش المشترك ليس بعيدا عن أفكار مثل الفردية والجماعة، والفئة والطائفة، والاندماج والعزلة، وهو كذلك ليس بعيدا عن إمكانات تعظيم المشترك، وتنظيم المختلف، وتكامل التنوع، وإدارة المشترك في ضوء المؤتلف؛ إذ يعد ذلك جميعه خروجا من الاختلاف إلى جوهر الائتلاف.
ومن ثم في إطار يتعلق بمستقبل فكرة المواطنة في دولة مسلمة، وفي سياق عملية التفعيل والتشغيل، فإنه من الواجب أن نؤكد أن بعض ما تعرضنا إليه إنما يشكل مفاصل مهمة في بناء رؤية المواطنة والإمكانات التي تتعلق بعالم تفعيلها وفاعليتها، إلا أن استكمال هذه الرؤية يتطلب التعرض لأكثر من مدخل يمكن مع تكافله مع تلك المداخل أن يؤسس لرؤية تتعامل مع الواقع المعاصر ومعطياته، بما يحقق الوعي والسعي اللازمين للتعامل مع إشكالات المواطنة والتحديات التي تفرضها في المجتمعات المسلمة المعاصرة.
وفي هذا المقام فإن مداخل مثل اللغة، وكذلك الفطرة الإنسانية في الحنين إلى الأوطان، والقضايا التي تتعلق بالمرجعية، والشريعة، والشرعية، في ارتباطها بالمواطنة، إنما تشكل مقدمات مهمة يجب أن نؤكد على تكاملها مع بعضها في إطار من الجامعية والفاعلية، يمكن أن تؤصل لهذه الرؤية الاستراتيجية للمواطنة. ونظن أن ذلك يستأهل مشروعا متكاملا في الدرس والبحث؛ تتكامل فيه التخصصات المختلفة من القانون والسياسة والإدارة والاجتماع وعلوم النفس والتربية، وكذلك الفلسفة، وعلوم التنظيم والتنمية المستدامة بمفهومها الشامل، بما يشكل رؤية واضحة للإجابة على الإشكالات والتحديات التي تتعلق بموضوع المواطنة، فضلا عن اقتراح آليات للتفعيل والتشغيل في هذا المقام، هذه الرؤية الاستراتيجية الشاملة إنما تمثل واحدا من أهم واجبات الوقت في هذه الآونة بما تستدعيه من عمل؛ ويضاف إلى مسار المواطنة من إشكالات أضافتها الثورات العربية، والتي فجرت تحديات جديدة بصدد المواطنة وغيرها، بل ومفهوم السياسة ذاته وكافة العمليات السياسية.
twitter.com/Saif_abdelfatah