تُعقَد في 24 و25 من الشهر الجاري قمة قادة
الاتحاد الأوروبي التي يفترض أن تناقش أزمة شرق المتوسط بين
تركيا واليونان، وهي قمة تراهن عليها الثانية للضغط على الأولى، إذ تطالب
اليونان القمةَ بإقرار
عقوبات رادعة ضد تركيا، مهددة بعدم التعاون في ملف بيلاروسيا في حال امتنعت القمة عن ذلك.
تقديرات كثيرة توقعت صدور عقوبات كبيرة على تركيا استجابة للرغبة اليونانية، ويفسرون قرار أنقرة الأخير بسحب سفينة عروج رئيس للشاطئ كمناورة لتخفيف حدة العقوبات عليها، بينما يراها آخرون بادرة حسن نية قبيل القمة.
وكان مسؤولون أوروبيون تحدثوا عن ضرورة انتهاج سياسة "العصا والجزرة" مع أنقرة حيال أزمة شرق المتوسط، وهو الطرح الذي رفضته الأخيرة بحدّة، مؤكدة أنها ليست من نوع الدول التي يمكن أن تُعامل بهذا الشكل، وإنما بالاحترام المتبادل.
لا شك في أن القمة الأوروبية ستخرج ببيان تضامن لا لبس فيه إلى جانب اليونان، فذلك مقتضى عضويتها (مع قبرص اليونانية) فيه، إضافة لتزايد أهمية فكرة التضامن داخل الاتحاد بعد "البريكست" والأزمات الأخرى التي يواجهها، فضلاً عن تحريض دول عديدة في مقدمتها فرنسا ضد تركيا. لكن، هل ستصدر القمة عقوبات كبيرة ومؤثرة على تركيا يمكن أن تضعف موقفها أو تدفعها للتنازل؟ لا نرجّح ذلك لأسباب عديدة في مقدمتها:
أولاً، داخل الاتحاد الذي تتخذ قراراته بالإجماع، ليس ثمة موقف موحد من أزمة شرق المتوسط ولا ضد تركيا. فسقف فرنسا المرتفع يختلف عن دور الوساطة الألماني، وهم مختلفان عن موقف إيطاليا المتردد. كما أن تصريحات ماكرون قبل اجتماع دول جنوبي أوروبا يختلف عنها بعده، ما يشير لعدم تساوق الدول الأخرى - بعضها على الأقل - مع التشدد الفرنسي.
ثانياً، رغم انزعاج دول الاتحاد من الأنشطة التركية في شرق المتوسط، إلا أن ثمة إدراكاً بأن اليونان لا تملك الحق المطلق في الأزمة الأخيرة، وأن الدفوعات التركية فيها الكثير من المنطق والأحقية.
ثالثاً، دعوة أنقرة المتكررة للحوار وتعاطيها الإيجابي مع الوساطات والمبادرات، مع الوساطة الألمانية في البداية ثم مع
مبادرة حلف شمال الأطلسي، ثم قرار سحب السفينة للشاطئ مؤخراً قبل القمة.
رابعاً، إن تجميد مفاوضات الانضمام مع تركيا من قبل الاتحاد قبل سنوات قد أضعف مستوى الوصائية الأوروبية عليها، وبالتالي يقلل من تأثير ضغوطه عليها.
خامساً، يدرك الاتحاد الأوروبي أن عقوبات كبيرة على تركيا ستعني انحيازاً كاملاً ونهائياً منه إلى جانب اليونان ضد تركيا، ما سيخُسره ثقة الأخيرة، وبالتالي يفقده قدرته على لعب دور الوسيط مستقبلاً، وهو الدور الذي ما زال حريصاً عليه.
سادساً، هناك منظومة طويلة من المصالح والمهددات المشتركة وأوراق القوة والضغط المضاد التركية التي يمكن أن توازن (ولو نسبياً التيار الدافع باتجاه العقوبات.
سابعاً، يدرك الاتحاد أن العقوبات، ولا سيما السياسية والاقتصادية، ليست ذات تأثير كبير على تركيا أو غيرها من الدول، وأنها في كثير من الأحيان لا تعدو كونها تصديراً لموقف أكثر منها أداة لتغيير سياسيات الدول، فضلاً عن أن بعض العقوبات ذات تأثير سلبي في الاتجاهين، وهو أمر ليس مرحباً به في ظل الآثار السلبية لجائحة كورونا على الاقتصادات الأوروبية.
ثامناً، صدور تصريحات أوروبية كثيرة تركز على فكرة الحوار مع تركيا والرغبة في الحفاظ على العلاقات معها، بما في ذلك
تغريدة الرئيس الفرنسي الأخيرة التي نشرها باللغة التركية.
في الخلاصة، لا نتوقع أن تصدر عن القمة الأوروبية عقوبات كبيرة وواضحة على تركيا. المرجّح أكثر في نظرنا - إضافة للتضامن مع اليونان - هو تقديم الاتحاد مطالب واضحة من تركيا، في مقدمتها وقف
أنشطة المسح والتنقيب وتهيئة الأجواء
لحوار بناء مع اليونان، والتلويح بعقوبات إن رفضت أنقرة ذلك. وهو، كما يبدو، موقف مبدئي قابل للتطوير لاحقاً حسب المستجدات، وخصوصاً رد تركيا.
قد يصدر كذلك عن القمة بعض
العقوبات الخفيفة أو الهامشية لإرضاء اليونان وبعض الدول ذات المواقف المتشددة، لكن من الصعب جداً أن تتخطى هذه الحدود للاعتبارات سالفة الذكر. على الأقل، لن يكون ذلك إن حصل منطقياً ومبرراً، فضلاً عن أن يكون مفيداً.
الأهم من كل ما سبق، أن أي قرارات أو ضغوطات أو عقوبات من الاتحاد الأوروبي لن تؤدي إلى تغيير موقف تركيا، التي تَعُدُّ أزمة شرق المتوسط في صلب أمنها القومي وحقوقها في ثروات المتوسط، وهي حقوق غير قابلة للتنازل بالنسبة لها.
بسحبها السفينة نحو الشاطئ قبيل انعقاد القمة تكون أنقرة قد رمت الكرة في ملعب الاتحاد الأوروبي، ومن المستبعد ألا يلتقط الأخير هذه الإشارة، خصوصاً بعدما تراجعت حدة التوتر في المنطقة بشكل ملموس إثر اللقاءات الفنية التي جمعت الطرفين بدعوة من الناتو. فمن الصعب أن تُواجَه المبادرة التركية بتشدد أوروبي، إن كان ثمة حرص على المرور بالأزمة من مرحلة التوتر إلى مرحلة التهدئة، فضلاً عن الإبقاء على مساحة مناورة ووساطة للاتحاد سيفقدها بالتأكيد إن بالغ بالضغط على أنقرة.
twitter.com/saidelhaj