أخبار ثقافية

عالم محمود الرّيماوي القصصي في كوكب تفّاح وأملاح

محمود الريماوي
محمود الريماوي

يعدّ الرّيماوي كاتبًا أردنيًا من جيل الكتّاب الرّواد، الذين ظهروا في السّبعينيات والثمانينيات، أسهم مع غيره في تطور التّجربة الأدبيّة الأردنيّة علاوة أنّه استطاع أن يقدّم أدبًا حقيقيا لا يعبّر عن موقع المتفرّج، وقد ترافق ظهور إنتاج الريماوي مع احتدام التّغيرات السّياسية والاجتماعية في الوطن العربي.
إذ تفتّحت عيونه على مأساة فلسطين المحتلّة، وعاش فترة الهزائم والانكسارات المتكررة التي عرفها العرب.حتى  بات من الصّعب جدًّا فصل النّتاج الأردنيّ عن النّتاج الأدبيّ الفلسطينيّ؛ لأنّ مثل هذا التّعلق لم يكن أمرًا عابرًا وطارئًا، بقدر ما فرضتها طبيعة العلاقة الجغرافيّة والاجتماعيّة.


من هذا المنطلق، نذكر بادئ ذي بدء، أنّ محمود الرّيماوي ولد سنة 1948م، في بيت ريما، وهي بلدة فلسطينية، تتبع محافظة رام الله، عمل محررًا، وكاتبًا، وسكرتيرًا للتّحرير في صحيفتي الوطن الكويتيّة، والرّأي الأردنيّة، وترّأس تحرير صحيفة السّجل الأسبوعيّة الأردنيّة، والصّحيفة الثّقافيّة.
بدأ حياته الأدبيّة قاصًا، ثمّ كاتبا روائيًا، ومن أعماله القصصيّة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: العرّي في صحراء ليليّة (1972)، والجرح الشّماليّ (1980)، وكوكب تفّاح وأملاح (1987)، وهي التي نحن بصدد الحديث عنها الآن، أمّا الرّواية نجد، من يؤنس السّيدة (2009)، وحلم حقيقي (2011)، وغيرها من النّصوص الإبداعيّة مما لا يتسع هذا الموقع لذكره(1).


كوب تفّاح وأملاح

استطاع محمود الرّيماويّ في مجموعته القصصيّة "كوكب تفّاح وأملاح" أن يبني عالما لا يتجاوز الواقع، ذلك أنّه يقدم معالجة لأوضاع المرحلة، بحيث جاءت هذه المعالجة وثيقة حيّة، حافلة بالتّفاصيل الّتي ترسم صورة الواقع النّفسي والاجتماعيّ والسّياسيّ. لذلك، فإنّ الرّاصد لسير خطّ محمود الرّيماوي القصصي في "كوب تفّاح وأملاح" يجد أنّها مكتظة بالمحمولات المرجعيّة، من خلال تفاعل السارد مع الحدث.

ضمّت المجموعة سبع عشرة قصّة، توزّعت على أربع وثمانين صفحة من القطع المتوسّط، وهذه المجموعة هي الإصدار القصصيّ الثّالث.


العنوان


يعقد عنوان المجموعة القصصيّة "كوكب تفّاح وأملاح" على ثنائيّة محوريّة متناقضة، يبدو الأوّل منهما مستقلًا ومنافيًا عن الثّاني؛ إذ إنّ تعارضًا بين التفاح والأملاح، في الأوّل يشير إلى الحياة والأمل، أمّا الثّاني على العكس تمامًا، وفقًا لذلك، فإنّ العنوان يحمل في طياته صراعًا ضديًا، يظهر ظهورًا جليًا، وهذا بالضّبط ما سنختبره في المجموعة القصصيّة.


قصّة "الحكماء يجتمعون في غمرة الأحداث" قصّة رمزيّة، تنهض على السّخريّة والمفارقة بين الأقوال والأفعال، قصّة تتحدث عن مدينة يعاني النّاس حصارًا من عدو شيمته العلم والغدر، في الوقت الذي يخطط العدو لاحتلال المدينة، يبدد الحكماء وقتهم واهتماماتهم بعراك الأطفال والفتيان. 


في حين قصّة "فصلٌ من كتاب الأيام الحاضرة" تنحو منحىً تسجيليًا، يعبّر المؤلف بأسلوب ساخر، ولغة تميل إلى لغة الكتابة الصحفيّة، لا تخلو من إدانة، إذ تتحدّث عن اجتياح لبنان عام 1982، وما قامته قوّات الاحتلال الصّهيونيّ من ممارسات نازيّة، كما تعد القصّة نقدًا للسلطتين السياسية والإعلاميّة العربيّة، لذلك يقوم السّارد بقراءة الحادثة بعين محلل صحفي، لهذا تخلو القصة من التقنيات السردية كالرمز والتناص والعناصر الأساسيّة كالحوار.  


وتستمد قصّة "عبد الله الأشقر النّحيل" عناصرها السّرديّة من قاموس الحياة اليوميّة، مستلهمة معاناة الإنسان الذي يعيش على الهامش، وهموم الطّبقة الفقيرة، يظهر من حلالها مأساوية ما يجري في العالم، إذ تطرح قصّة شاب اسمه عبدالله الأشقر، متزوج ولديه سبع بنات وولدان، يعمل ميكانيكيًا، في الثّانية والأربعين من عمره، توفّي بمرض السّرطان، وعندما سأله السّارد شقيق عبدالله عن حال أولاده، وفيما إذا كانوا يتلقون مساعدة من الحكومة، أجابه: الله هو المعين، لا إعانة ولا من يحزنون.

 

وحسبي الإشارة إلى أنّ فضاء المكان والزّمان في القصّة محدد، فالمكان محل تصليح السيارات، والزمان هو الوقت الذي استغرق تصليح سيارة السّارد، هذا وينسج السّارد في فضائه القصصيّ بين الحضور والغياب باستخدام تقنية التذكر والاسترجاع.


وفي قصّة "دوام لا ينتهي"، التي تتحدّث عن معاناة الشّخصيّة المغتربة، تظهر قدرة القاص على استغلال تفاصيل الحياة اليوميّة، وبالرّغم من أنّها مستمدة من واقع الحياة، إلّا أنّ القاص أعاد إنتاجها تبعًا لوجهة النّظر الأدبيّة، والقصة قائمة على تقنية التّذكر والاسترجاع، إذ تنثال ذكريات الماضي على السارد عن طريق التداعي لتتناسب مع حال الشخصية.


أمّا قصّة "سيف أبيض طويل ذو مقبض"، فمكتنزة بالطّاقة الرّمزيّة، ومحمولة على المرجعيّة التّاريخيّة، حيث تدور حول طفل لا يتجاوز عمره تسع سنوات، وقد طلب من أمّه أن تشتري له لعبة؛ على أنّ اللعبة التي يريدها سيف أبيض له مقبض، لهذا، من السّذاجة بمكان تفسير القصّة على معناها الظّاهري، إذ إنّ المعنى كامن في البنية العميقة.

 

وإذا ما نظرنا إلى السّيف من زاوية تاريخيّة موضوعيّة، فلا مناص من القول بأنّ مأتى نصر العرب وفتح البلاد كثيرًا ما كان بالسيف، وبناءً على ذلك، فإنّ اختيار الرّيماوي السّيف في خطابه القصصيّ لم يقع في الاعتباطيّة أو المجانيّة؛ نظرًا لما يوحي به من إشارات على القوّة، والغلبة، والسّيطرة، والنصر، وانطلاقا من هذه الإشارة يقيم المؤلف عملية مقارنة بين الماضي والحاضر، ليتحول الرّاهن تبعًا لهذه الإشارة إلى نوع من الإدانة، ومرد ذلك راجع إلى ما يزخر به من هزائم وانكسارات، ومن هذا نستنتج، بأنّ استحضار السّيف بمنزلة تعويض نفسي عن حالة ضعف الأمّة.


واللافت في القصّة، السّارد العليم، الذي يكشف دواخل الشّخصيّة وأفكارها، ويفسّر لك ما سيحدث، لهذا كثيرًا ما يتداخل صوت السّارد مع صوت الشّخصيّة، لنتساءل مع أنفسنا من المتحدّث السّارد أم الشّخصيّة، وهذا ما يُسمّى تقنيا الاستحضار أو الفلاش باك.


ومن الصّعب على القارئ في قصّة "رجل وامرأة" في بادئ الأمر التّكهن بمراد السّارد، ولملمة خيوط الرّؤية، لتبدو مشوشة ومضطربة، لكن ما نستطيع أن نخلص إليه بأنّ الحبّ بأشيائه المتعددة: المرأة، العشق، المحبّة، شكّل محورًا أصيلًا في بنية القصّة.


وتغدو تقنية التّذكر والاسترجاع في قصّة "عروس" مرتكزًا دلاليًا، ينطلق منه وعي السّارد، التي أقلّ ما يقال عنها إنّها قصّة موشومة بالذّاكرة، إذ تدور القصّة حول فتاة، رفضت في ليلة زفافها الخروج من بيت أهلها إلى بيت زوجها حياء.


وقصّة "الظلال الذّهبية" ذات نزعة اجتماعيّة، يقدم فيها السّارد احتجاجه على المجتمع، ترى في المرأة مجرد شهوة، وجسد، وخطيئة، ودنس، وتقع على ضيم ومسغبة.

 
وأظنّ أنّ ما جاء في قصّة "انفصال العاشقة" من حيث القراءة المضمونية قد أجابت بوضوح عن عنوانها، على أنّ قارئ القصّة قد يلوم صاحبها، قائلًا؛ إنّها قصّة لم تكتمل.

 

وتعكس قصة "الرديئة" الّتي لا تخلو من ملامح السّيرة الذّاتيّة، اغتراب الشّخصيّة، عبر رحلة في ذاكرة السّارد، ويقدّم المؤلف نموذجًا مغايرًا للقصّة؛ بأسلوب لا يحمل اللغة الأدبيّة، إضافة إلى أنّها تفتقر للحوار، هذا وتنحدر القصة نحو نهاية غير مقنعة، ولا تتوافق وتوقعات القارئ، لذلك خرجت النهاية عن السياق الطبيعي لتطوّر أحداث القصة. الأمر نفسه ينسحب على قصّة "طاحونة الهواء"، من ناحية جنوحها نحو الذّاتيّة، أشبه ما تكون بالحديث اليوميّ، أو ما يمكن أن أسمّيه بالتّدوينات اليوميّة.


وترسم قصّة "حمّى المخيم" ملامح الشّخصيّة الإنسانيّة المغتربة، وقد تناولت مشكلة اللاجئ الفلسطينيّ، الذي يرزح تحت وطأة المخيم، إذ تدور القصّة حول شخص يهذي من الحمّى، ويشتد عليه الألم، وتستيقظ مواجعه في الليل، لا أب، ولا ولد، ولا سند، ولا بلد، جاعلا من اسم فاطمة التي يخاطبها ويردد ذكرها كثيرًا، رمزًا ومعادلا موضوعيًا لفلسطين، وعلى ضوء ذلك، سعى السّارد في القصّة في حالة لا شعوريّة جعل اسم فاطمة بمنزلة تعويض نفسي؛ للتخفيف من غلواء الاغتراب، والوحدة، والحرمان.


وحسبي الإشارة في هذا المقام إلى أنّ قصّة "اللحظة الحرجة" محمولة على المرجعيّة الرّمزيّة والأسطوريّة، تتحدث عن متسلق جبل عالٍ، في شرخ الشّباب، وقد طاب له أن يحقق رقمًا قياسيًا؛ لإشباع حاجة دفينة لديه، وليس طلبًا لشهرة، أو مجد، أو مال، أعدّ عدّته، واطمأنّ أنّه لائق صحيًا، ولك أن تتخيل ما سيواجهه في رحلة الصّعود، وما يصاحبه من إرهاق، وتعب، وخوف، وفقًا لهذا التّصور، اختار الرّيماويّ شخصيّة سيزيف رمز العذاب الأبدي، في إشارة لطيفة إلى الإرادة، والعزيمة، والتّصميم، والتّحدي.


ومن الطّريف حقًا، حالما وصل السّارد في القصّة إلى العقدة، وهي شعور المتسلّق بالضّعف، سرعان ما ضاق ذرعًا، وداهمه شعور بالاختناق، الأمر الذي جعله يرفع يده، تاركًا المتسلق يصارع مصيره وحده، دون عون أو تعاطف من أحد.


إنّ كان لا بدّ مما ليس منه بد، تغلب على قصّة "زواج البحر بالصّحراء" السّرد بضمير المتكلم، كما تنحو منحىً غرائبيًا، إذ تتضح قدرة المؤلف على أنسنة الطّبيعة، وجعلها قادرة على ممارسة تأثيرها في الآخرين، ويجسّد الحوار الدّاخلي في القصّة أو ما يصطلح عليه بالمونولوج، إحساس الشّخصيّة السّاردة بالهشاشة والضّعف.
وتعتمد قصّة "السيارتين"، التي تقوم أساسًا على السّرد بضمير المتكلم، على استخدام المشاهد من الحياة اليوميّة، ومن سماتها قدرتها على رؤية الأحداث بوضوح، وعلى الرّغم من واقعيتها إلّا أنّ هذا لا يبرر أنّ تخلو من التخييل، وزبدة القول في هذه القصّة بأنّها تدور حول ارتطام سيارتين. 

عطفًا على ما سبق، يبدو واضحًا في أنّ الرّيماويّ يستمد مادته في قصّة "الواحد تلو الآخر" من حياته اليوميّة، وتكاد نقترب إلى حدّ ما من أسلوب المذكّرات. 


ويصدق ذلك تمامًا على قصّة "لقاء لم يتم"، ولعلّ القارئ يلاحظ فيها السّرد بضمير المتكلم والرّؤية الذّاتيّة الواحدة، ويغدو المكان حيزًا فنيًّا ينطلق منه وعي السّارد، ففي ساعة الخوف رأى شيئًا يتحرّك، وتصوّره في البدء قطًّا، ثمّ خاله كلبًا، فإذا به ذئب جميل، وعلى شيء من الوداعة، اندفع مذعورًا باتجاهه، فإذا هو قد تجاوزه في لمح خاطف، التقط أنفاسه حين رآه يبتعد، وهبط قلبه. 


وعلى أي حال، أودّ القول هنا بأنّ الذي وجدناه في قصّة الحكماء يجتمعون في غمرة الأحداث، وعبدالله الأشقر، واللحظة الحرجة، وحمّى المخيم، أكثر متانة بالمقارنة مع غيرها من القصص، من حيث البناء الفنّيّ.
أخيرًا: من يقرأ نصوص الريماوي القصصيّة بدءًا وانتهاء، يكتشف استفادته من رصيده الثقافي والمعرفيّ، لذا يمزج الريماويّ عالمه القصصيّ بين الواقعيّ واللاواقع، مكتظًا بالمحمولات اليومية، والتّراثيّة، والأسطوريّة، والرّمزيّة.


في المقابل، فإنّ قارئ مجموعة "كوكب تفّاح وأملاح"، ما من شكّ في أنّه يتعثّر ببعض الهنات والثغرات، وعلى ذلك، قد يتساءل القارئ عن سبب في أنّ بعض القصص لم تكتمل، ومن سوء الطّالع أيضًا أنّ المجموعة القصصية تزخر بالأخطاء المطبعيّة، مما لم يقصدها المؤلف، وتتويجًا للملاحظتين المذكورتين، لا بد لنا من التّنويه إلى أنّ السّرد بضمير المتكلّم كثيرًا ما يستغرق القصص، إلى أنه يكاد يكون المسيطر والأكثر ظهورًا، لذا كان حريًّا بالرّيماوي أن يستخدم ضمير الغائب دون المتكلم. علاوة على ذلك، فقد خلت المجموعة من الالتفات، الذي يعد تقنية مميّزة في السّرد، من خلال التّحوّل المفاجئ في الضّمير.

ومع ذلك، فإنّ الإنصاف، يقتضي الإشارة، إلى أنّ مجموعة الرّيماوي القصصيّة، تستحق من الباحث والدّارس أن ينظر فيها، وأن يعيد النّظر.

باحث وناقد مستقل- الأردن.


المصادر والمراجع:
محمود الريماويّ: كوكب تفّاح وأملاح، ط1 ـ 1987، دار الحوار للنّشر والتّوزيع، دمشق.

التعليقات (1)
sandokan
الجمعة، 11-09-2020 07:30 ص
ضمير أبلة حكمت .. حين عرض فيلم "يوم حلو يوم مرّ" للمخرج خيري بشارة عام 1988، أقبل الجمهور على الفيلم، ذهبنا للمشاهدة، وكان ذلك في سينما بطنطا. ذكرني اسم الفيلم بالمثل العامي: يوم عسل ويوم بصل، فرحنا نشاهد الفيلم مدفوعين بدافع تقليديّ هو سرد القصة والأحداث، والبحث عما يثير اهتمامات شاب في العشرين من العمر، اعتاد الصور النمطية عن الأفلام العربية. لكن خلال المشاهدة، شعرت وأنا الطالب الوافد حديثاً إلى مصر، بأن الفيلم يشبه الأُسر المصرية التي صرنا نراها ونتعرّف قليلا عليها. ووجدنا في الفيلم ما هو أفضل من توقعاتنا، بل بدأنا مرحلة وعي جديدة، تبحث عن دور الفن والأدب، أكثر ما تبحث عن المتعة الفنية التقليدية، ولحسن الحظ فقد ترافق بداية الوعي الفني ذاك، بما كنا ندرسه أكاديميا في كلية الآداب، حيث كان الأساتذة مهتمين بتدريسنا عن الوظائف المختلفة للأدب، ومذاهب الفن للفن والفن للمجتمع، والذاتية والموضوعية، من خلال أمثلة منتقاة من الأدب العربي المصري بشكل خاص، والأدب الأوروبي. شدنا نضال الأرملة في رعاية أسرتها في الفيلم، والتي جسدت دورها باقتدار الفنانة الراحلة فاتن حمامة، ووعيت وقتها على أهمية مراعاة عمر الممثلة في الأدوار، وتعلمت وقتها أن المهم هو النجاح في الدور، ولا يقتصر النجاح فقط على النجمة الحسناء التي تؤدي دوراً في قصة حب. كنا بالطبع فقد شاهدنا عدة أفلام لفاتن حمامة بالأبيض والأسود، تلك التي كان التلفزيون العربي (ماسبيرو) يكرر عرضها، ووقتها أيضا تعرفنا على اختيارات فاتن حمامة التمثيلية، وانحيازها للفن لا لأي شيء آخر، ومن الفهم السطحي للإغراء. كانت دور السينما هنا قد أقفلت أبوابها في الانتفاضة الأولى، فلم يعد ممكناً مشاهدة الأفلام إلا من خلال التلفزيون، وكان ذلك جميلاً وكافياً، بالنسبة لمن هم في أعمارنا. فكان "يوم حلو يوم مرّ"، بداية تقليد جديد لي لمشاهدة الأفلام الجديدة، من خلال السينما، سيما أن سعر التذاكر زهيد، ولدينا الوقت الكافي. مرّ على ذلك الفيلم 27 عاماً، إلا أن ذلك لم يمنعني من إعادة المشاهدة، حيث شاهدته عدة مرات، آخرها كانت قبل عامين، حيث أعادتني المشاهدة إلى تلك الأيام الأولى لي في مصر، وفي الوقت نفسه رحت أشاهد الفيلم بما ينسجم مع عمري الآن، وما اكتسبناه من خبرات ووعي، فوجدته فيلماً رائعاً، بواقعيته المتفائلة، وكيف يكون للإنسان دوره الذي لا يهرب منه، وخصوصاً دور المرأة. قلت لنفسي: لعلّ الله يطيل في عمري ما يجعلني أعود لمشاهدة الفيلم بعد عقد من السنوات، وعقدين وثلاثة..والسبب أن هذا الفيلم من الأفلام الخالدة، وما الخلود إلا القدرة على إثارة الفكر والشعور، وليس الناحية التوثيقية فقط. ما الخلود؟ أهو الفكر والشعور حينما ينطلقان من الإنسانية والالتزام؟ وهل هو مفاجئ أن تكون أهم الأفلام الخالدة قد جاءت من حقبتي الخمسينيات والستينيات؟ وأن نصيب فاتن حمامة وحدها هو العُشر تقريباً، بواقع 8 من مائة فيلم! ما العلاقة بين الخلود والضمير! وهل كانت رحلة فاتن حمامة إلا رحلة خلود الضمير! وهل كان كاتب نص سيناريو وحوار المسلسل الميلودرامي الشهير "ضمير أبلة حكمت" مطلاً على شخصية فاتن حمامة الاجتماعية والفكرية والثقافية بل والسياسية أيضاً؟ في ذلك المسلسل أدت فاتن حمامة دوراً هو من أروع أدوارها، هو دور مديرة مدرسة ثانوية للطالبات بمدينة الاسكندرية، حيث تكون المدرسة مصبّا للتحولات الاجتماعية، فتكّون الطالبات والمعلمات مجتمعاً صغيراً، يشكل انعكاساً للمجتمع الاسكندراني والمجتمعين المصري والعربي بشكل عام. كان المسلسل في ربيع 1991، أي في السنة الثالثة لي دراسة وإقامة وتعرفاً على الأسر المصرية، التي كنا نعيش بينها، حيث بدأنا نتعرف أكثر على هذا المجتمع العربي الشقيق، وأمكننا رغم محدودية الخبرة الفكرية، ربط المسلسل بما نراه في الواقع. عبّر المسلسل عن التحولات الاجتماعية والسياسية، وما يواكبها من تغير السلوك لا يبعد عن احتمال كبير بتوجيه نقد سياسي لعصر الحكم في الثمانينات والتسعينيات، بسبب موقف الكاتب وربما موقف الفنانة فاتن حمامة الفكري والسياسي من الحكم وسياسات الانفتاح وما واكبها من سلوك. عرض "ضمير أبلة حكمت" التحولات وأثرها على الأفراد داخل المدرسة كمجتمع صغير والأفراد في المجتمع بشكل عام، وكيف كانت نفسيات هؤلاء الأفراد تتلوّن مع المصالح، في ظل التنافس المرضيّ وغير الشريف، لدرجة وجود أرض لنبات الكيد والحسد حتى في ظل المدرسة كمؤسسة تربوية تمثّل القدوة. وما رافق ذلك من محاولات غزو أصحاب السطوة والنفوذ والمال المحدثين للمدرسة، وكيف صدّت أبلة حكمت تلك الغزوات. والجميل في المسلسل تفاؤله بالناس، حكاما ومحكومين، لتعديل المسار، ومن تابع أحداث المسلسل يدرك سرّ اختيار الاسم: ضمير أبلة حكمت هو ضميرنا الباقي، مقابل تيار الخلاص الفردي الذي يستغل زمن التحولات لزيادة النفوذ. منحنا "ضمير أبلة حكمت" التفاؤل بالعيش بوطن نحبه، العيش بكرامة.. لي الآن أن أتذكر تلك الأيام قبل 24 عاما! ولعلي أتذكر كيف كنت أذهب لزيارة الإسكندرية لتمضية يومين هناك تأثرا بمشهد فاتن حمامة وأحمد مظهر في المسلسل، وهما يركضان على كورنيش البحر، ولعلي الآن أركض بذهني فنياً فأمارس الرياضة الفكرية، لتأمل زمن جميل مضى. الآن أتساءل، لماذا كانت أعمال فاتن حمامة الفنية تنجح بين مختلف الأعمار؟ ذلك التساؤل الذي لم أفطن إليه وأنا عشريني. الجواب أن أي عمل فني متقن منطلقاته تنحاز للإنسان لا بدّ أن يحالفه النجاح، بل والخلود أيضا. لذلك، لنا ما نتعزى به برحيل الفنانة الراحلة فاتن حمامة، وهو أعمالها الباقية بيننا، وهي ببقائها باقية وخالدة فنياً وإنسانياً وقومياً. ولعلّ رحيلها الجسدي، دعوة لنا بالعودة إلى البدء من جديد، من "يوم سعيد" فيلمها وهي طفلة ابنة 9 سنوات إلى "يوم حلو ويوم مرّ" و"أرض الأحلام"، آخر أفلامها الرائعة. لعل الرحيل يعيدنا إلى رشدنا ثقافياً، وفنياً، وأن الفنون ليس كما يروج ضدها، والسينما فن راق هدفه إنساني نهضوي باتجاه التغيير والتطوير، وأن هناك بديلاً ثقافياً أصيلاً لما يعرض علينا من نكوص سلفي ماضويّ. لعله الضمير الوطني لكل بلد عربي، لعله الضمير العربي، والإنساني! ولعله الضمير الشخصي لكل واحد منا!