هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يبدو أنّه لن يُقيّض للكيان اللبناني أن يحتفل بالذكرى المئوية لإقدام المستعمر الفرنسي على إعلان «دولة لبنان الكبير»، بعدما ارتكب المندوب السامي الفرنسي هنري غورو جرائمه العسكرية في ميسلون ثم في دمشق. فلبنان اليوم في أزمة، والأصح أنه كان دائما في أزمة منذ ولادته القيصرية، غير أنّها مُندلعة هذه المرة من دون أمل، حتى ولو بملمح وحيد لحلّ
يلوح في الأفق المدلهمّ.
علينا في البداية أن نضع النقاط على
الحروف لتبيان الحقائق الدامغة التي يحاول بعض الأطراف اللبنانية تجنّب الإقرار
بها، إما تهرّبا أو جهلا، والأرجح تواطؤا:
أولا ـــ لبنان الصيغة، لبنان «الدولة
الوظيفة» لم يعد لوجوده مبرّرات يمكن أن تمدّ في حياته على المدى المنظور.
ثانيا ـــ القوى السياسية اللبنانية
عاجزة عن اتخاذ أية خطوة يمكن أن تُخرج اللبنانيين من المستنقع الراكد، بل من
المؤكّد أنّ هذه القوى هي سبب الأزمة في الأساس.
ثالثا ـــ دعوات «الحياد» كذبة فاقعة
قد تنطلي فقط على المواطنين المخدوعين الذين لم يخرجوا بعد من عقلية «القطيع
الطائفي». لبنان النأي بالنفس أضعف من أن ينأى عن المشاريع التي تستهدفه.
رابعا ـــ التدخل الخارجي كشف عن وجهه
الفعلي، وبات يتحرّك علنا بذرائع شتى ولغايات شتى.
خامسا ـــ الإطار العربي (التضامن
العربي من خلال جامعة الدول العربية) انتهى إلى غير رجعة؛ فغالبية الدول في العالم
العربي أصبحت مجرّد تابع خانع للإرادات الأجنبية المختلفة.
سادسا ـــ أزمة لبنان المستجدّة
مرتبطة جدليا بالمخطّط الأمريكي البعيد المدى لمنطقة «الشرق الأدنى». وليست «صفقة
القرن» سوى أحد المظاهر ذات الدلالات المُقلقة، التي ستترك تداعيات اجتماعية
وديموغرافية جذرية في لبنان على وجه الخصوص.
إذن، كيف يمكن إخراج لبنان من هذه
الأزمة الاستثنائية؟ بل هل بالإمكان إخراجه سالماً منها؟
فلنتناول السيناريوات والاحتمالات
واحداً واحداً، فنبدأ بالسياسيين المحليين.
القوى اللبنانية، المسؤولة عمّا آلت
إليه الأوضاع، تُجري الآن «مشاورات» من أجل التوافق على الحدّ الأدنى من حلّ داخلي، يكفي لضبط الأمور وإيقاف سلسلة الانهيارات المتسارعة. طبعا، توجد تدخّلات وضغوطات
إقليمية ودولية مكشوفة، وهذا ما يزيد من صعوبة المعضلات المتراكمة. والمؤشرات
الأولى للحراك الداخلي لا تبشّر بالخير، فالتجاذب المحلّي والاستقطابات الحادة
ورّطت الجميع. ومع ذلك، يمكن تصوّر احتمالين: الأول، استمرار «المفاوضات» من غير
أن يتوصل الأفرقاء إلى نتيجة، فتواظب الحكومة المستقيلة على تصريف الأعمال إلى أن
يظهر الدخان الأبيض من مكان ما في العالم! والثاني، تشكيل حكومة بالتي هي أحسن
بعقلية «التنافق الوطني»، وهذان الاحتمالان يمثّلان رغبة بترحيل الأزمة إلى وقت
آخر، ريثما تكون الملفات الأخرى قد نضجت لفرض الحل على اللبنانيين.
في حال فشل السيناريو المذكور بالفقرة
السابقة، وارتأت القوى الخارجية المؤثرة أنه من الضروري بهذه المرحلة إيجاد تسوية
مهما كانت طبيعتها، فهذا يعني الانتقال إلى أسلوب «مساعدة» الطبقة السياسية
اللبنانية للتوصل إلى حل. ولن تكون هذه المرّة الأولى التي يقدّم الخارج فيها
«مساعدة» لترتيب تسوية على المقياس اللبناني: اتفاق مصري ـ أمريكي أنهى «صيف
الدم 1958». تفاهم شامي ـ أمريكي أدخل «قوات الردع العربية» إلى لبنان لإيقاف
الحرب الأهلية سنة 1976. وعندنا أيضا «اتفاق الطائف»، و«اتفاق الدوحة»... إلخ.
وبما أنّ الإطار العربي صار في ذمة
التاريخ، وحجز لنفسه مكانا مريحا في الذاكرة المتحفية، فإن أيّ مسعى للتسوية هذه
المرّة لن يكون إلا بنكهة غير عربية. وما تحركات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
سوى خطوة منسّقة في هذا المنحى. وفي المحصّلة النهائية، في حال عُقد اجتماع أو
مؤتمر دولي لدرس أزمة لبنان، فإنّ الحل الذي يتم التوصل إليه سيفرض على اللبنانيين
بالإقناع أو بالقوة.
هذا السيناريو يتضمن بذور حرب داخلية.
فلنتذكر أنّ «اتفاق الطائف» لم يحظَ بقبول كل اللبنانيين، ما أدى إلى معارك شرسة
بين القابلين والرافضين. وقد انتصر مؤيدو الاتفاق بعدما تدخل الجيش الشامي بتغطية
إقليمية ودولية. وربما يحدث الشيء نفسه إذا نجح الغرب الأوروبي ـ الأمريكي في
صياغة تفاهم أحادي الجانب، يكون على حساب المصالح الحيوية لقوى أخرى، إقليميا ودوليا!
حتى الآن، هناك مشاورات واتصالات لفكفكة
العقد بالتدريج. الغرب يريد التدخل، لكنّه يواجه رفضا حازما من قوى لبنانية
وازنة؛ لذلك، قد يلجأ إلى توتير الأوضاع الداخلية، فيتخذ أعمال العنف ذريعة للنزول
إلى الساحة اللبنانية تحت شعار «المساعدة الإنسانية». ولا يمكننا استبعاد هذا
التصرف، فالجيش الأمريكي (ومعه قوات أطلسية) يحتل مناطق شاسعة عند الحدود الشامية
ــ العراقية، من دون أي مسوّغ قانوني. ولن تتردّد واشنطن في تنفيذ خطة مماثلة
على الأراضي اللبنانية إذا استدعت الحاجة، بدعم أطلسي كالعادة.
الكيان اللبناني اليوم أمام مرحلة
تاريخية فاصلة، ويواجه خيارات أحلاها مرّ:
ــ الاستمرار في النهج الحالي،
وومن ثم تأجيل الأزمات التي ستعاود الانفجار دوريا.
ــ التدخل الأجنبي السياسي والاقتصادي،
ثم الانتقال إلى العمل العسكري المباشر (الاحتلال).
ــ مثل هذا التدخل سيؤدّي حكما إلى
صراعات ومواجهات بين اللبنانيين أنفسهم، وبين الرافضين منهم والقوى الأجنبية.
ــ ونظرا إلى الاستقطاب الطائفي
الحادّ، فإن وجود العنصر الأجنبي قد يفتح شهية البعض للتقسيم من بوابة «الحماية
الإنسانية» (ألم يفعل الأمريكيون ذلك في شمال العراق، ويفعلونه حاليا في شمال شرق
الشام؟)
ــ وبهذا يكون لبنان «الدولة الوظيفة»
قد أنجز دوره، وقد حان وقته لتغيير وظيفته، والبدء بدور جديد مرسوم في «صفقة القرن»، وعلى وجه التحديد من ضمن مشاريع التوطين.
هذه هي السيناريوات المحتملة، وهذه هي
المخططات. وربما تطرأ تطورات ليست في الحسبان، فتتغير التفاصيل وتتبدل المواقيت.
لكن الثابت المؤكّد أنّ الكيان اللبناني الذي عاش مئة سنة قد دخل مرحلة النزع
الأخير، واللبنانيون يترقّبون بقلق شديد حالة الاحتضار، وفي الوقت ذاته يتطلعون
بأمل مشوب بالحذر إلى مخاض الولادة الجديدة!