هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بداية نشير إلى أن أحمد الملك، روائيّ سودانيّ، ولد سنة 1967، في مدينة أرقو، ومقيم حاليا في هولندا، له العديد من الأعمال الرّوائيّة، منها: الفرقة الموسيقيّة (1991)، وعصافير آخر أيّام الخريف (1996)، والموت السّادس للعجوز منوفل (2001)، والخريف يأتي مع صفاء (2003)، وغيرها.
والجدير بالذّكر؛ أنّ أحمد الملك أظهر كتابة الرّواية دون أن يتمّ النّصف الأوّل من عقده الثالث، وفي جميع رواياته يهجس بالحرّية، وبمعاناة الإنسان العربيّ، وهمومه، ومشاكله؛ لا سيّما السّودانيّ الذي ظلّ رازحًا في خضم الحروب الأهلية والانقلابات العسكريّة تحت نظام فاشي، واستبداديّ، وقمعي، رغم أنّه تحرر من نير الاستعمار الإنجليزي.
وعلى هذا النّحو، فإنّ رواية الخريف يأتي مع صفاء، تتنزّل في دائرة الأدب الواقعيّ، ولعلنا نجد عند محمّد مندور تعريفًا أكثر إضاءة وتفصيلًا للأدب الواقعيّ، وهو "الأدب الذي يقوم على ملاحظة الواقع وتسجيله، لا على صورة الخيال وتهويله"(1)، وبهذا يغدو وسيلة لاستظهار أسراره وخفاياه، وطاقة قادرة على استجلاء عمق الأشياء، وأداة نافذة.
طبقًا لهذه الإشارة، سأحاول في هذه المقالة وضع الرّواية تحت اختبار الواقعيّة؛ بهدف تبيان تمثلاتها وكشف المسكوت عنه.
من هذا المنطلق، فإنّ رواية الخريف يأتي مع صفاء، تنتقد الواقع السياسيّ (2)، والحكم العسكريّ، واستغلال السّلطة، وفظاعة ممارستها الإجراميّة، والاستبدادية، والتدميريّة، كما تصف سوء الإدارة، وغياب الحرّية، والعدالة، والدّيمقراطية، وتكشف حجم فساد المؤسسة الحكوميّة المستشري، وطغمة كبيرة من الوزراء والمسؤولين والمتنفذين في الدّولة.
ومن الجدير بالملاحظة، أنّ الخطّ الأساسيّ في الرّواية مكرّس لشخصيّة السّيد المشير الطاهر محمّد، كبطل تراجيدي، يمارس استبداده اللغوي والفكري، يشغل منصبًا رفيعًا في المجلس العسكريّ، وقد ظلّ يستبدّ بالسلطة أكثر من أربعة عقود، على أنّه أيام الثورة لم يكن على كتفه سوى نجمة واحدة، والشخصيات الأخرى على كثرتها في الرّواية، لا يتعدى دورها دور الكومبارس في المشهد التمثيلي.
ولا مناص من الإشارة هنا إلى اعتماد الرّاوي على السّرد بضمير الغائب كعنصر مهم من عناصر الرواية، يعدّ دليلًا على أنّ السّارد في الرّواية شاهد على فساد وخيانة السّلطة، وطغمتها الحاكمة، كذلك شاهد على طبقة كبيرة من النّاس، وهم يفترشون الأرض بمعاناتهم التي تضرب الوطن خلال فترة حكمه من أقصى جنوبه حتّى أقصى شماله، حيث الجوع، والفقر، والحرمان، والتشرد، والمرض.
وبهذا، يقدّم السّارد الطاهر محمّد في الرّواية كطاغية، مصاب بداء الفصام، والاستبداد الكامل بالسّلطة، إلى حدّ الهوس والجنون، جاء من خلال انقلاب عسكري، يستولي على السّلطة، ووفق مبدأ تفسير الشكوك لمصلحة الدولة، يقمع معارضيه السياسيين وخصومه؛ خاصّة الضّباط العسكريين، وتوقيع عقوبات بالاغتيال والقتل، والإعدام رميًا بالرّصاص على الجنود، بالرّغم أنّ القانون لا يجيز إعدامهم؛ لأنّهم ينفذون تعليمات الرّتب العليا، وفي أحسن الأحوال تراوحت العقوبة بين الطّرد من الخدمة والسّجن حتّى الموت، دون مبرر ولا محاكمة، إنما يحتكم إلى منطق السّلطة القامعة لا إلى منطق الحكمة والعقل.
وفي ضوء ذلك، ظهر السّيد المشير في الرّواية بأكثر من وجه؛ ظهر كشخصيّة إجرامية، تعشق سفك الدّم؛ من أجل أن يبقى في سدّة الحكم، شخصية لا أخلاقيّة، تتهاوى في الرذيلة، ماكرة، ومغفّلة، وشكاكة، وخائفة، وقلقة، وحاقدة، وناقمة، وخائنة، ومخبولة، ومعتوهة، وهذه الأخيرة ظهرت بشكل جلي في نهاية الرواية.
وعلى كلّ ذلك، فَقَدَ ذاكرته، وجهل اسمه، وتاه في أرضٍ وقرية نائية، يرتدي بذلة عسكرية قديمة دون نياشين أو أوسمة أو حتى رتبة عسكرية، لا بحثًا عن بيت طفولته وذكرياته، ولا إرث مزعوم لعائلته، بقدر ما كان يبحث عن صورته في مرآة زمن ومجد ضائع، الأمر الذي جعله مثيرًا للشفقة.
بناءً على ذلك، يطوّع أحمد الملك السّارد كأداة فنيّة في الرّواية، وكونه راويًا عليمًا وواحدًا من العناصر المهمّة في العمل الروائي وفقًا لاتجاهه الفكريّ، إذ يصف من خلاله سخرية السّلطة، وعقمها الفكري، المختزلة بشخصيّة الطّاهر محمّد، خلافًا لمزاعم أجهزة إعلامه التي ادّعت بأنّه جاء إلى السّلطة من خلال انتفاضة شعبيّة، قضت على حكم الأحزاب، وأنّ ممثلي الشّعب ونقابات العمّال ظلوا طوال ثلاثة أيام يتوسّلون إليه لتسلم أعباء السّلطة؛ من أجل إنقاذ الوطن من الفوضى. وبناء على ما سبق، يكشف السّارد تواطؤ الصحافة والإعلام وسخف دعاويها.
تبعًا لذلك، يتحول النّظر في السّلطة إلى تشهير، وإدانة، وفضح، وتعرية. ولتأكيد خواء السّلطة الفكريّ والمعرفيّ، كثيرًا ما كان الطّاهر يؤثر إلى عدم الانجرار في مناقشات مكشوفة في اجتماع مجلس قيادة الثورة؛ لأنّه الأقل كفاءة منهم جميعًا. لهذا، يكتفي بالصّمت محاولًا عن طريق الإيحاء بحركات عينيه أنّ يؤكد بأنّ صمته كان ناجمًا عن حكمة لا عن جهل، وهذا تمامًا ما يؤيّده سارد الرّواية.
من هنا، تنهض الرواية على السخرية، كوسيلة من وسائل نقد السلطة القامعة والخائنة لمبادئها، وما إن تمكّن السيد المشير من الاستيلاء على السّلطة، حتى أعلن حلّ مجلس قيادة الثورة، إضافة إلى أنه كافأ الذين وقفوا معه بالتّسريح من الخدمة، وبكلّ جراءة أعلن عن استفتاء لرئاسة الجمهوريّة، وحصل على تسع وتسعين بالمئة.
ومع ذلك، فإنّ اهتمام السّارد بتسليط الضوء على شخصيّة المشير الطّاهر محمّد، دون غيرها من الشّخصيات، له ما يبرره، الأمر الذي جعله يفرض ذاته في السرد، إلا أنّ الرّواية في الحقيقة تتميّز بالانسياب، والحيويّة، والوضوح، وتنطوي على العديد من القصص الفرعيّة، أَحْكَمَ السّارد ربطها، ولا تقطّع السّياق، وتناسب مقام السلطة الغاشمة القامعة.
وبالنتيجة، حملت الرّواية دلالات تعبيرية سلطوية واضحة، وكشف السّارد للقارئ عن رؤى السّلطة في بسط هيمنتها، المنغمسة بالحقد والكراهية ضد الشّعب والآخرين.
أمّا صفاء عثمان، فتملك مفاتيح الخريف، فهي جميلة، قوية الشّخصيّة، واثقة من نفسها، لا تكترث بوجود السّيد المشير، والدها طاعن في السّن، وهو أستاذ جامعي في كليّة الزّراعة، وكانت الأولى ضمن المتخرجين في كلية الاقتصاد، مخطوبة لبهاء الدين عبد الرّحيم، محام، عمره ثلاثون عامًا.
وبخباثة ومكر، استحدث المشير وزارة خاصّة أسماها وزارة الرّعاية الاجتماعيّة، على أن يكون والدها وزيرًا، وأن تكون ابنته سكرتيرة له، بالرّغم من أنّه طاعن في السن، ولا يصلح، وغير مؤهل لهذا المنصب؛ نظرًا لظروفه الصّحية، وكثيرًا ما كان يرتكب حماقات في حضرة المشير إلى حد إهانته، لكنّه يتحمّل من أجل الفتاة التي تملك مفاتيح الخريف.
يهيم السيد المشير بها، لكن المشكلة تكمن في خطيبها، وبمكر وخباثة، دبرت وزارة الداخلية بأمرٍ من المشير تهمة بأنّ في مكتبه منشورات للحزب الشّيوعي، تحرّض على الثورة.
فإذا كان لا بد مما ليس منه بد، فإن صفاء الفتاة الوحيدة التي قالت: لا، رغم أنّهم عرضوا أمامها شريط فيديو يظهر فيه خطيبها وهو يحتضر من التعذيب؛ متوسلًا إليها أن تقبل بالسيد المشير زوجًا حتى لا يفقد حياته.
اختفت صفاء إلى الأبد، دون أن تترك أثرًا واحدًا يحدد وجهتها، وعبثًا حاول رجال أمن المشير العثور عليها، وعلى بديل بالصّفات والمزايا نفسها. والحقيقة إذا كان لنا من كلمة، نقول؛ إن هذا الاختفاء المفاجئ والانقطاع، يعد مأخذًا على السارد لا يمكن أن يتقبله القارئ، إضافة إلى أنه لا يلقي الضوء الكافي على هذه الشخصية التي تعدّ أساسًا في عنوان الرواية؛ حيث إن القارئ للعنوان سيتوقع أنّ الرواية مكرسة لشخصية صفاء كونها محور الموضوع.
عودًا على بدء؛ انتقامًا قتل السيد المشير خطيبها، واعتقل والدها بتهمة المشاركة في مؤامرة لقلب نظام الحكم، وبالرّغم من ذلك لم تظهر، وعلى أمل عودة صفاء، أصدر المشير في الصّحف قرار تعيينها وزيرة للرّعاية الاجتماعيّة مكان المرحوم والدها؛ وفاءً لذكرى رجل أفنى عمره في خدمة الوطن.
ومزيدًا من الإيجاز، فإنّ بحث المشير عن صفاء ليس بدافع الحبّ بقدر ما كان بدافع الحقد والكراهية والانتقام وإذلال الطّبقة المتعلمة والمثقفة وجميع من يطالب بالحرية؛ لأنّها جعلته يتذكّر دفعة واحدة فشله وكلّ هزائمه القديمة، لهذا، فإنّ صفاء تغدو أداة كاشفة، ورمزًا للحرية، وتجسد في الرّواية الصّوت الرّافض لأشكال القمع كافة، إنّها صوت الشعب المقموع، والأمّة، والوطن، لذلك تشكّل هاجسًا مخيفًا، يستوطن نفس المشير، وتقض مضجع السّلطة القامعة، وبسببها تمّ إحصاء السكّان ثلاث مرّات خلال عام واحد؛ لكي يتسنى لرجال الأمن البحث عنها.
وعليه، تذوب صفاء الرّمز بالوطن، لتشكّل معادلًا موضوعيًا على مقاومة إغراء السّلطة، ورفض المتاجرة بالوطن ومقدراته.
باختصار؛ يظهر الطاهر المشير في نهاية الرواية على العكس تمامًا في جميع مطارحها؛ إذ يظهر في صورة باهتة، وهزيلة، وضعيفة، ومثير للشفقة، الأمر الذي يجعلنا نستنتج بأنّ الراوي تعاطف إلى حد ما معه، فقد عاش فقيرًا، ومات والده مقتولًا من غير أن يراه، لهذا أراد أن ينتقم، ويرغب في التّسلط الكامل.
على ضوء هذا، نستشف أنّ الواقعيّة أعطت الرّواية بعدًا مأساويًّا تراجيديًّا للطاهر المشير، بسبب الهرم والشيخوخة وتدهور حالته الصحية، حتى أصبح عاجزًا عن إدارة شؤون الدولة.
تبعاً لذلك، تتداخل في ذاكرة المشير وأحلامه صور الموتى والأحياء بما يشبه الكوابيس، إذ رأى نفسه معزولًا عن تفاصيل الحياة في وطن لا يزال يلعق جراحاته، حتى أصبح ألعوبة وأضحوكة من مساعديه ومعاونيه ومستشاريه، وهذا بالضبط ما نعنيه بالسّقوط التراجيدي.
وصفوة القول؛ إنّ رواية (الخريف يأتي مع صفاء) هي نهاية تراجيدية لرئيس عسكري غير منتخب شرعيًّا، يدعى السيد المشير، ولا غرابة في هذه النهاية المأساوية والتراجيدية، كما اعتمد الكاتب في الرواية على راوٍ عليم يلازمه في حلّه وترحاله، في اليقظة والمنام، ولا تغيب عنه صغيرة ولا كبيرة، ليتناسب مع رؤيته في فضح بطش السلطة وهيمنتها، وهذا ما جعل شخصية السيد المشير تأخذ حيزًا في الرواية وعلى عقلية الراوي، كما يمثل السيد المشير في الرّواية أنموذج الحاكم الطاغي المستبد برعيّته في مقابل الآخرين المتمثلين لرغباته.
وعلى ذلك، وفّق أحمد الملك إلى حدّ ما في اختيار هذه الشّخصيّة، وفي إعادة صياغة الحوادث مع التفاتات إلى نوازعها ومحرّكاتها، وهي الاستبداد الكامل بالسّلطة إلى حدّ الهوس والجنون.
واختزالًا، بإمكاننا القول؛ إنّ أحمد الملك استفاد في رواية (الخريف يأتي مع صفاء) من تقنيات متعددة، وعلى وجه الخصوص تقنية السينما والتمثيل والتذكر والاسترجاع، ويغلب على الرواية طابع التوثيق والتسجيل.
باحث وناقد مستقل، حاصل على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث.
المصادر والمراجع:
1- الأدب ومذاهبه: محمّد منذور، دار النهضة للطبع والنشر، القاهرة، ص 82.
2- الخريف يأتي مع صفاء: أحمد الملك، ط1 ـ 2003، المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر.