تدّعي أغلب وسائل
الإعلام أنها تلتزم بالحيادية والموضوعية، وتعلن ذلك في شعاراتها وحملاتها الترويجية، وتدعي جميعها أنها لا تنحاز مطلقا ضد أي من الأطراف، إلا أن النتيجة النهائية لتحليل مضمون تلك المنصات الإعلامية يكون مختلفا كليا عن ما تدعيه.
يتم تقييم وسائل الإعلام بشكل عام من حيث مؤشر
المهنية عبر عدة معايير؛ من أبرزها سياسات تلك الوسائل تجاه أطر الانحياز المختلفة، والتي تعتبر خطا فاصلا في استقلال العمل الصحفي.
ولعل مصطلح الانحياز مصطلحا واضحا في معناه، إلا أن أنماطه لا تبدو بنفس الوضوح للقارئ. فأطر الانحياز هي تلك السياسات التي تنتهجها وتسمح بها أو تفرضها وسائل الإعلام تجاه القضايا المختلفة التي تنبني على صراع ما بين جهتين أو عدة جهات، وبالتالي فإن أنماط الانحياز يمكن أن تتحول إلى أسئلة، ومجموع الإجابة عنها هو نتيجة اختبار مهنية لأي وسيلة إعلامية ترغب في اختبار مهنيتها.
ومن تلك الأطر السياسة التحريرية لكل مؤسسة إعلامية تجاه القضايا المختلفة. فعلى سبيل المثال اتخاذ وسيلة إعلامية موقفا ما ضد شخصية عامة أو حزب أو مجموعة ما أو دولة يعد انحيازا غير مهنيا، فليس من مهام وسائل الإعلام إطلاق الأحكام على الأفراد أو المجموعات أو الدول، ولكن عليها نقل الأحداث وكشف التفاصيل والكواليس التي تُمكّن القارئ من إطلاق حكمه الخاص على أطراف القضايا المختلفة، وبالتالي فإن قيام وسائل إعلام بنشر مانشيتات رئيسة تصف حزب ما أو جماعة ما أو فئة ما بالخيانة أو العمالة وغيرها من الأوصاف، فهذا يعد انحيازا واضحا في السياسة التحريرية لتلك المؤسسة، ولا يمكن الاعتماد عليها في التغطيات الإخبارية لقضايا الصراع المرتبطة بتلك المجموعة التي تنحاز ضدهم.
كما أنه على وسائل الإعلام أن تفرض قواعدا واضحة لمنع الصحفيين من فرض ميولهم الذاتية كنمط انحياز في أعمالهم الصحفية، فلا يجب السماح لصحفي أو مقدم تلفزيوني أن ينحاز لأحد طرفي صراع وفقا لخلفيته السياسية أو العرقية. وهنا لا يكون الالتزام المهني فقط على الصحفي، ولكن على مؤسسته الإعلامية التي يجب عليها أن تضع قواعد واضحة لمنع الانحياز على أساس الميول الذاتية للعاملين لديها. فمن غير المنطقي أن يكون صحفي مسؤولا عن تغطية ملف حقوق الإنسان، وهو يعلن بشكل دائم عن دعمه للسلطة في دولة استبدادية، أو أن يكون صحفي له ميول سياسية ليبرالية ويعمل على تغطية ملف الإسلام السياسي وتظهر في كتاباته ميوله الذاتية، وتسمح له المؤسسة الإعلامية الاستمرار في هذا المنحى من التغطيات الصحفية.
وكذلك فإن شفافية طرح المعلومات وحجمها عن كل تفاصيل الصراع وأطرافه من معايير كشف أنماط الانحياز، فإن قامت مؤسسة إعلامية بحجب معلومات أساسية حول مجموعة ما من المُحتجين، فإن هذا يجعل حكم القارئ أو المشاهد ليس كاملا. فعلى سبيل المثال، الاحتجاجات العمالية والفئوية التي أعقبت الثورة
المصرية عام ٢٠١١، كان لكثير منها تفاصيل هامة من حيث انقطاع الرواتب عن العاملين لعدة شهور، أو توقف خطوط الإنتاج بشكل متعمد من جانب رجال أعمال تابعين للنظام البائد، ولكن إصرار مجموعة من وسائل الإعلام على تسليط الضوء على تلك التظاهرات في إطار أنها حالة من حالات تعطيل الإنتاج، وحجب تفاصيل هامة عن أسباب ودوافع العمال للاحتجاج؛ كل ذلك دفع الكثير من القراء والمشاهدين للحكم بشكل خاطئ على تلك الاحتجاجات.
كما أن معيار التكافؤ من أهم المعايير التي تكشف أنماط الانحياز، فعلى وسائل الإعلام أن تضع قواعد واضحة لضمان تكافؤ الفرص لأطراف أي قصة صراع لطرح دوافعهم وأفكارهم، وهو ما يشمل إفراد الوقت والمساحة بشكل متكافئ لكل الأطراف، وعدم التشويش أو تشتيت أي من الأطراف خلال إدلائه بتصريحاته الإعلامية.
وكذلك كفاءة الصحفيين الذين يعملون على الملف، فمن أنماط الانحياز اختيار صحفي عالي الكفاءة لمحاورة أحد أطراف الصراع، فيما يتم تكليف صحفي مبتدئ بمحاورة الطرف الآخر، وهو ما يعد انحيازا من جانب المؤسسة الإعلامية. فمن المعلوم أن الصحفي الأكثر كفاءة ستكون لديه القدرة الأعلى على صياغة رواية الطرف الذي يحاوره بشكل أوضح وأكثر تشويقا وإثارة، ويجذب تعاطف وقناعة القارئ أو المشاهد، لذا فيجب أن يعمل على محاورة كل الأطراف ذات الصحفي، أو أكثر من صحفي على ذات الدرجة من الكفاءة.
ومن أهم أنماط الانحياز التي يتم رصدها هي سياسات المؤسسات الإعلامية تجاه ضغوط جماعات المصالح والضغوط الحكومية في قضايا معينة، فكلما كان قرار وسائل الإعلام مستقل عن الضغط الحكومي وضغوط أصحاب المصالح والمعلنين، كلما كانت وسائل الإعلام أقرب إلى الشكل المهني وعدم الانحياز، بينما يشكل هذا التحدي الأكبر في اختبار الانحياز لأي مؤسسة إعلامية.
فقدرة الوسيلة الإعلامية على تنفيذ سياسات غير منحازة تجاه القضايا رقم الضغوط الحكومية وأصحاب المصالح، وكذلك القيود الرقابية والتشريعية الحاكمة للعمل الإعلامي في كل دولة، هو الذي يصنع وسائل إعلام ذات مصداقية عالية وشعبية واسعة لدى الجمهور.
أستطيع أن أقول إن وسائل الإعلام المصرية بشكل عام تسقط جميعها في مؤشر أطر الانحياز، وهو ما يعود إلى استفحال السيطرة الأمنية على وسائل الإعلام المصرية، وتحكم رؤوس الأموال السياسية في المنصات الإعلامية بشكل عام، والإقصاء المتعمد لكل المناهضين للسلطة الحاكمة من المؤسسات الإعلامية، ما صنع كادرا إعلاميا مواليا للسلطة مسيطرا على كل المنصات الإعلامي، وهو ما يجعل المناخ الإعلامي المصري غير مهني بالأساس، ولا يمكن الاعتماد عليه في التوثيق والأعمال الأكاديمية والبحثية حول الأحداث الكبرى التي مرت بها مصر منذ ٢٠١١ وحتى الآن.
فهل يمكن أن تشهد الساحة الإعلامية المصرية ميلاد مؤسسة إعلامية خارج أطر الانحياز؟!
* صحفي متخصص في شؤون المجتمع المدني