كتاب عربي 21

مواسم الهروب إلى الشمال

محمد هنيد
1300x600
1300x600

من مدينتي الصغيرة في عمق الجنوب التونسي تخرج كل ليلة قوارب الهجرة السرية نحو الشواطئ الجنوبية للقارة الأوروبية وتحديدا نحو إيطاليا ومنها إلى بقية دول القارة بلا حسيب ولا رقيب. يتكدّس الشباب والنساء والأطفال وحتى الرضّع فوق قوارب متهالكة وهم يولون وجوههم صوب الجنّة الموعودة في مشهد صار أكثر من مألوف لدى السكّان ولدى السلطة. 

الظاهرة لا تقتصر على هذه المدينة الصغيرة لكنها صارت اليوم تقليدا موسميا على كل الشواطئ الجنوبية للمتوسط في وضع يُنذر بكارثة اجتماعية واقتصادية على المدى المتوسط والبعيد. اللافت في المشهد هو أن دول المصدر وهي أساسا تونس والجزائر والمغرب وليبيا لا تلقي بالا للموضوع وكأنه لا يعنيها أما دول المصبّ وهي أساسا دول الاتحاد الأوروبي فإنها تُبدي أحيانا تنديدا خجولا يرتقي إلى مصاف الرضا الكامل عن هذا التطعيم الديمغرافي الذي هي في أمسّ الحاجة إليه اليوم.
 
لكن من جهة أخرى فإنّ التنديد الإيطالي الأخير على لسان وزير الخارجية وتهديده دول المصدر وعلى رأسها تونس بإجراءات عقابية قد تشمل إيقاف كل أنواع التعاون أو المساعدات يوحي بأن أوروبا لا تستطيع السكوت عن ظاهرة قد يستفيد منها اليمين الشعبوي المتطرف. هذه التصريحات قابلتها من جهة أخرى تصريحات غريبة وغير مسؤولة لرئيس تونس الذي رأى في الهجرة السرية مؤامرة من معارضيه لتشويه صورته وإخراجه في صورة العاجز.

في جذور الظاهرة

الهجرة عامة سواء كانت متجهة شمالا أو جنوبا شرقا أو غربا هي ظاهرة ملازمة لتكوّن المجتمعات ولصعود الحضارات وأفولها وهي كذا ملازمة لنشأة الأمم ونشأة الدول والمجتمعات. لم تكن ظاهرة الهجرة لتطرح مشكلة في مرحلة ما قبل نشأة الدولة الحديثة ونشأة الحدود بشكلها الذي أعقب الحرب العالمية الثانية.
 
مباشرة بعد نهاية الحرب وهزيمة النازية كانت أوروبا تحتاج إلى إعادة بناء اقتصادها من الصفر بعد أن دمرت الحرب كل مجالات الاقتصاد والبنية التحتية فكان الطلب على اليد العاملة المغاربية متزايدا دون أن يطرح الأمر أي مشكل قانوني أو أخلاقي أو سياسي. تواصل الأمر إلى أواخر الثمانينيات ولم تكن تفرض أغلب دول أوروبا على الدول المغاربية تأشيرات لزيارتها ولم يكن المواطن المغاربي يفضّل الاستقرار أو البقاء في دول أوروبا إلا للدراسة أو في حالات نادرة. كما كانت دول المغرب العربي قادرة إلى بداية التسعينيات على توفير مواطن شغل لعدد كبير من مواطينيها وخاصة من خريجي الجامعات وأصحاب الشهادات العليا. هذا الأمر لا يشمل الجاليات الجزائرية التي استقرت في فرنسا بعد خروجها من الجزائر لأسباب سياسية تتعلق بمسارات الثورة.

 

إن بقاء حالة الانسداد الاجتماعي في دول حوض المتوسط الجنوبية وانتشار شبكات الفساد وإمكانية تشدد الحكومات الأوروبية مع المهاجرين قد تدفع في المستوى المتوسط والقريب إلى موجات إنفجارية جديدة لن تكون سليمة العواقب.

 



مع بدايات الأزمات الاقتصادية في الدول المغاربية مطلع التسعينيات باستثناء ليبيا ومع فشل مغامرات إعادة الهيكلة الاقتصادية في تونس والجزائر والمغرب وتفشي الفساد بدأت بوادر موجات الهجرة الأولى التي دفعت بالدول الأوروبية إلى فرض التأشيرة للحد من موجات المهاجرين.
 
بعد سنة 2000 ومنذ منتصف التسعينيات تطورت أمواج المهاجرين غير الشرعيين نحو أوروبا بشكل خطير ولم تعد تقتصر على العاطلين بل صارت تشمل بالأساس نخب المتعلمين من الأساتذة والأطباء والمهندسين والإطارات. وهي الأصناف التي تشملها الهجرة السرية والشرعية في إطار الدراسة أو عقود العمل التي يختار أصحابها عدم العودة إلى أوطانهم بعد ذلك ويفضلون الاستقرار في أوروبا. بعد ثورات الربيع العربي إلى حدود اليوم انفجرت كل معدلات الهجرة السرية والعلنية نحو أوروبا وأفرغت قرى كاملة في جنوب تونس مثلا من شبابها الذي أيقن أنه لا أمل له في وطنه وأنّ بطالته قد تطول إلى ما لا نهاية له. 

الهروب من الجحيم 

لا يكاد يمر أسبوع واحد على الضفة الجنوبية للمتوسط دون أن نسمع بغرق العشرات من الشباب والأطفال والنساء وهم يحاولون بلوغ الضفة الشمالية. الأعداد في ازدياد لا يتوقف وهي تشمل مهاجرين من جنوب الصحراء يتنقلون عبر مرحلتين تتمثل الأولى في بلوغ دول المغرب والاستقرار فيها مدة من الزمن في انتظار الحصول على فرصة للعبور خلسة في قوارب الموت بعد الحصول على خيوط شبكات التهريب التي توصل إلى شاطئ الشمال.
 
تشمل الهجرة النظامية أساسا أصحاب الشهادات العليا بشكل أصبح يمثل نزيفا لا يتوقف لدول المغرب التي تحولت إلى مزوّد لأوروبا بالكفاءات التي عجزت عن استغلالها وتأطيرها وهي حسب كثير من الملاحظين أكبر الخسائر التي تتكبدها هذه الدول على صعيد التنمية والنهضة. 

 

إن انسداد الأفق بشكل شبه نهائي أمام مئات الآلاف من الشباب العاطل وعجز الحكومات المتعاقبة عن مقاومة الفساد الذي أطاح بكل خطط التنمية وابتلع آلاف مواطن الشغل يمثل المصدر الأساسي لموجات الهجرة السريّة.

 



أما الهجرة السرية وهي مدار القراءة هنا فإن أسبابها لا تختلف عن أسباب الهجرة النظامية مع فارق بسيط وهو عجز أصحابها عن دخول دول الاتحاد الأوروبي بطرق قانونية. ملايين الشباب العاطل ممن أكمل تعليمه أو لم يكمله يشكلون اليوم جيشا جرارا عجزت دول الفساد والنهب عن توفير موطن شغل لهم. أدرك هؤلاء أنه لا مستقبل لهم في بلادهم وأن فرص توظيفهم أو حصولهم على عمل لائق يحفظ كرامتهم تكاد تكون منعدمة. بناء على هذا الوعي فإن المجازفة بركوب البحر مع إمكانية الموت غرقا صارت أمرا واقعا لا مناص منه عند كثير من الشباب اليائس.

يعي المهاجرون أنهم يواجهون المجهول بعد وصولهم إلى الضفّة الشمالية لكنهم يدركون أيضا أن جحيم أوروبا يعادل الجنّة مقارنة بجحيم أوطانهم حيث لم يترك لهم الفساد أية فرصة لغد أفضل. تدرك الحكومات في هذه الدول أيضا أن التخلص من هذا الشباب العاطل يمثل في جزء منه تخفيفا للاحتقان الاجتماعي والمطالبة بالتشغيل كما يمثل من زاوية أخرى مصدرا للعملة الصعبة في المستقبل القريب عبر تحويلات العمّال بالخارج. 

إن انسداد الأفق بشكل شبه نهائي أمام مئات الآلاف من الشباب العاطل وعجز الحكومات المتعاقبة عن مقاومة الفساد الذي أطاح بكل خطط التنمية وابتلع آلاف مواطن الشغل يمثل المصدر الأساسي لموجات الهجرة السريّة. 

الآفاق والمخارج 


إن صمت الحكومات المتعاقبة أمام هذا المشكل الخطير الذي يهدد سلامة المجتمعات وتوازنها الديمغرافي على المديين المتوسط والقريب يعدّ مشاركة في إطالة أثر أخطر الأزمات. إن ارتفاع نسبة العنوسة وانفجار عدد الإناث اللاتي تجاوزن سنّ الزواج يمثل أحد المؤشرات على حجم التداعيات القادمة. 

الشباب المهاجر هو أهم ثروات البلاد إن لم نقل إنه ثروة الثورات فهو يشكل أساس الطاقة الإنتاجية والاستهلاكية في المجتمعات النامية وهو كذلك عمود الدورة الاقتصادية التي لا يمكن لها أن تتشكل بدونه. إن التفريط في هذه القوة يمثل تفريطا في كل فرص التنمية ففي الوقت الذي تفتح فيه أوروبا العجوز التي تعاني تهرما سكنيا أبوابها أمام الدماء الجديدة تفرط دول المغرب العربي في أنفس ما عندها. 

لن نتحدث هنا لضيق المجال عمّا تخلفه الهجرة من مآسيَ على المستوى الفردي والعائلي وما يترتب عن إعادة تشكل الأسرة في الغرب من مشاكل سواء كان زواجا مختلطا أو غير مختلط ولن نتحدث عما يعانيه المهجرون بأجيالهم المختلفة من مشاكل وتفرقة تجعل منهم مواطنين من درجة ثانية. لن نتحدث عن مشاكل الهوية ومسألة الذوبان التي تفرضها بعض الدول الأوروبية على المهاجرين الجدد. لن نتحدث عن كل ذلك لكننا نعتقد جازمين أنّ بقاء الأوضاع السياسية والاقتصادية في الدول المغاربية على هذا الشكل سوف يضاعف بشكل مطرد موجات الهجرة نحو الشمال. 

هذه الموجات فاقمت من ترددها موجات اللاجئين من مناطق الحرب في المشرق خاصة سوريا والعراق واليمن ومصر بشكل يضع الأمة أمام أخطر نزيف بشري في تاريخها المعاصر.
 
إن بقاء حالة الانسداد الاجتماعي في دول حوض المتوسط الجنوبية وانتشار شبكات الفساد وإمكانية تشدد الحكومات الأوروبية مع المهاجرين قد تدفع في المستوى المتوسط والقريب إلى موجات انفجارية جديدة لن تكون سليمة العواقب. 

بناء على ما تقدّم فإن فشل حكومات بلدان الجنوب في إيجاد حلول سريعة لمسألة الهجرة بشكل عام سيعجّل بسقوط هذه الأنظمة في المستوى المنظور ويفتح المنطقة على كل الاحتمالات الممكنة. لم تعد المسألة متعلقة اليوم بحلول ظرفية تخص هذه الشريحة العمرية أو تلك بل صارت مسألة مصير مجتمع برمته ومصير سلطة سياسية قد تنفجر في وجهها تداعيات هذه القنبلة الموقوتة في كل حين.

التعليقات (0)