هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"يا سليمان، لقد تفوقت عليك!" هكذا- كما يحكي المؤرخون- هتف الإمبراطور البيزنطي جُسْتِنيان الأول (جستنيان العظيم) مخاطباً طيف الملك سليمان، بعد أن تمّ له بناء كاتدرائية آيا صوفيا عام 537م بعد خمس سنوات من أعمال البناء.
ولما يزيد على تسعمئة سنة بقيت الكاتدرائية المقر الأسقفي لبطريرك القسطنطينية المسكوني حتى فتح المسلمون المدينة بقيادة السلطان العثماني محمد الفاتح سنة 1453، فأمر برفع الأذان في الكنيسة إيذاناً بجعلها مسجداً جامعاً. لم يهدم الفاتحون أي جزء من الكنيسة أو يشوهوا معالمها، واكتفوا بتغطية التصاوير والزخارف بالجصّ، حفاظاً على التقاليد الإسلامية، وأضيف إليها لاحقاً المآذن والمنبر والمحراب. وبعدها ظلّ جامع آيا صوفيا كذلك حتى عام 1931 حين أغلق أمام المصلين بضع سنوات، ليتحول بعدها سنة 1934 بمرسوم حكومي إلى متحف يجتذب ملايين السيّاح.
رحلة طويلة من التحولات خاضتها آيا صوفيا، قد لا يكون آخرها قرار محكمة تركية إلغاء مرسوم 1934 وإعادة المتحف إلى جامع. وكأن معجزة العمارة التي تقع في قلب إسطنبول مرآة تعكس التحولات التاريخية الكبرى في تركيا.
لكن آيا صوفيا لم تكن مرآة للتحولات في عالم السياسة وحسب، ولا في تركيا وحدها، وإنما انتصبت مرآة في المشرق كله، تعكس المواقف والآراء، بين من يرى هذه التحولات في لحظتها الساخنة واقفاً مع هذا الطرف وضدّ ذاك، ومن يراها جزءاً من طبائع التاريخ وتقلباته، وقد كان للعرب نصيب كبير من التأثر بتحولات آيا صوفيا مما انعكس في الثقافة والأدب والشعر.
لكلّ من أمير الشعراء أحمد شوقي (1868-1932) وشاعر النيل حافظ إبراهيم (1872-1932) قصيدة عن آيا صوفيا. وبينما يروق لكثير من الدارسين أن يقرنوا هذين الشاعرين ببعضهما البعض، فإنّ ثمة سمات جوهرية تدلّ القارئ المتعمق على أنّ كلّ واحد منهما يصدر عن رؤية شعرية خاصة، وموقف إنسانيّ مختلف، سنحاول استجلاءه بالمقارنة بين هاتين القصيدتين.
قصيدة حافظ إبراهيم كما يوضح محقّقو ديوانه "قالها حين خِيفَ على الآستانة أن تمتلكها دول الحلفاء وتنزعها من يد الأتراك وذلك عقب الحرب العظمى، وكانت جيوش تلك الدول قد احتلت هذه المدينة" (ديوان حافظ، طبعة الهيئة المصرية، 1987، ص402). والمقصود بالحرب هنا بالطبع الحرب العالمية الأولى، فالقصيدة تعود إذن إلى أوائل فترة احتلال الحلفاء لإسطنبول (1918-1923) وليس صحيحاً ما يتداوله كثيرون حالياً من أن القصيدة كتبت عند تحويل المسجد إلى متحف سنة 1934، وهو أمر مستحيل تاريخياً لأنه يجعل القصيدة قد كتبت بعد وفاة شاعرها!
يصدر حافظ إبراهيم في قصيدته عن شعور إسلاميّ قويّ، يحرّكه الخوف من عودة المسجد إلى كنيسة، فيخاطب آيا صوفيا:
أَيا صوفِيا حانَ التَفَرُّقُ فَاِذكُري * عُهودَ كِرامٍ فيكِ صَلّوا وَسَلَّموا
إِذا عُدتِ يَوماً لِلصَليبِ وَأَهلِهِ * وَحَلّى نَواحيكِ المَسيحُ وَمَريَمُ
وَدُقَّت نَواقيسٌ وَقامَ مُزَمِّرٌ * مِنَ الرومِ في مِحرابِهِ يَتَرَنَّمُ
فَلا تُنكِري عَهدَ المَآذِنِ إِنَّهُ * عَلى اللَهِ مِن عَهدِ النَواقيسِ أَكرَمُ
إنّ مسجد آيا صوفيا لم يُحوّل إلى كنيسة أثناء احتلال الحلفاء للمدينة، ولا بعد ذلك، ولكنّ الخوف على الإسلام يدفع الشاعر إلى الانسياق في أوهامه أو خيالاته الشعرية، فيرى المسجد وقد عادت إليه تصاوير المسيح والعذراء وقرعت فيه النواقيس وترددت في أرجائه الترانيم.
لكن اللافت للنظر هنا تفضيل حافظ للإسلام على المسيحية في البيت الأخير؛ إذ يعلن ببساطة أنّ عهد المآذن أكرم عند الله من عهد النواقيس.
ولا يكتفي حافظ بهذا، بل يتابع مخاطباً الله سبحانه:
أَيُرضيكَ أَن تَغشى سَنابِكُ خَيلِهِم * حِماكَ، وَأَن يُمنى الحَطيمُ وَزَمزَمُ؟
وَكَيفَ يَذِلُّ المُسلِمونَ وَبَينَهُم * كِتابُكَ يُتلى كُلَّ يَومٍ وَيُكرَمُ؟!
نَبِيُّكَ مَحزونٌ وَبَيتُكَ مُطرِقٌ * حَياءً، وَأَنصارُ الحَقيقَةِ نُوَّمُ
ولكنه يعود فيلوم نفسه والمسلمين على ما حلّ بهم، ويعزو ما جرى إلى:
عَصَينا وَخالَفنا فَعاقَبتَ عادِلاً * وَحَكَّمتَ فينا اليَومَ مَن لَيسَ يَرحَمُ
يصدر حافظ إذن عن نظرة إسلامية بسيطة، تفسّر تحوّلات التاريخ الكبرى بأسباب الطاعات والمعاصي، وترى هذه التحولات ثواباً أو عقاباً للمسلمين.
أما قصيدة أحمد شوقي "مسجد آيا صوفيا" فتحاول أن تعاين التحولات التاريخية التي طرأت على آيا صوفيا دون أن تنحاز لمرحلة على مرحلة:
كَنيسَةٌ صارَت إِلى مسجدِ * هَدِيَّة السَيِّدِ لِلسَيِّدِ!
كانَت لِعيسى حَرَماً فانتَهَت * بِنُصرَةِ الروحِ إِلى أَحمَدِ
لا يفاضل شوقي بين عهد وعهد، بل يمشي مع التاريخ ويتأمل جماليات المكان التي صنعها أصحابه في كل مرحلة تاريخية، فيقول في وصف الكاتدرائية:
شَيَّدَها الرومُ وَأَقيالُهُم * عَلى مِثالِ الهَرَمِ المُخلَدِ
تُنبِئُ عَن عِزٍّ وَعَن صَولَةٍ * وَعَن هَوىً لِلدينِ لَم يَخمُدِ
مَجامِرُ الياقوتِ في صَحنِها * تَملُؤُهُ مِن نَدِّها الموقَدِ
كانَت بِها العَذراءُ مِن فَضَّةٍ * وَكانَ روحُ اللَهِ مِن عَسجَدِ
عيسى مِنَ الأُمِّ لَدى هالَةٍ * وَالأُمُّ مِن عيسى لَدى فَرقَدِ
جَلّاهُما فيها وَحَلّاهُما * مُصَوِّرُ الرومِ القَديرُ اليَدِ
وَأَودَعَ الجُدرانَ مِن نَقشِهِ * بَدائِعاً مِن فَنِّهِ المُفرَدِ
فَمِن مَلاكٍ في الدُجى رائِحٍ * عِندَ مَلاكٍ في الضُحى مُغتَدي!
وشوقي، رغم عاطفته الإسلامية القوية، لا يستسلم للانحياز إلى محمد الفاتح وجنده وإن كان يصفهم بشدة البأس وبالإيمان:
قَد جاءَها الفاتِحُ في عُصبَةٍ * مِنَ الأُسودِ الرُكَّع السُجَّدِ
رَمى بِهِم بُنيانَها مِثلَما * يَصطَدِمُ الجَلمَدُ بِالجَلمَدِ
فَكَبَّروا فيها وَصَلّى العِدا * وَاِختَلَطَ المَشهَدُ بِالمَشهَدِ
والبيت الأخير يصف بروعة كيف أنّ كلا الجيشين قد صلّوا في آيا صوفيا في الوقت ذاته فالمسلمون كبّروا والرّومُ أقاموا صلاتهم حتى اختلط المشهدان.
وشوقي كذلك يرى أنّ جوهر الصراع على آيا صوفيا كونه صراعاً تركيّاً أوروبيّاً، وليس صراعاً إسلاميّاً مسيحيّاً:
لَن يَترُكَ الرومُ عِباداتِهِم * أَو يَنزِلَ التُركُ عَنِ السُؤدَدِ
فهو يفهم التحولات التاريخية بمنطق القوة والصراعات، ولا يعزوها أبداً إلى منطق الطاعات والمعاصي. أمّا المؤمنون من الجانبين فإنّ مولاهم الله وحده، وهم يعبدونه أمس واليوم وغداً، بغض النظر عن الصراعات الدنيوية الدائرة:
فَكُن لَنا اللَهُمَّ، في أَمسِنا * وَكُن لَنا اليَومَ، وَكُن في غَدِ
لَولا ضَلالٌ سابِقٌ لَم يَقُم * مِن أَجلِكَ الخَلقُ وَلَم يَقعُدِ
فَكُلُّ شَرٍّ بَينَهُم أَو أَذى * أَنتَ بَراءٌ مِنهُ طُهرُ اليَدِ