كتاب عربي 21

دلالات قرار آيا صوفيا

إسماعيل ياشا
1300x600
1300x600
أعلنت المحكمة الإدارية العليا في تركيا، الجمعة، عن حكمها في الدعوى المرفوعة بطلب إلغاء قرار مجلس الوزراء الذي حوَّل مسجد آيا صوفيا إلى متحف في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 1934، وقالت إن القرار المذكور باطل من الناحية القانونية، مشددة على أن آيا صوفيا مدوَّن في وثيقة سند الملكية بتوصيف مسجد ولا يمكن تغييره. وفي ذات اليوم، وقَّع رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان؛ المرسوم الجمهوري الخاص بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد وتحويل إدارته إلى رئاسة الشؤون الدينية.

معظم الأتراك عموما، والإسلاميون والقوميون منهم على وجه الخصوص، كانوا يطالبون منذ عقود بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، حفاظا على ميراث السلطان محمد الفاتح، والتزاما بوصيته، ويرون ذلك قضية وطنية. وتم تنظيم مظاهرات منذ ستينيات القرن الماضي من أجل المطالبة بفتح آيا صوفيا كمسجد، ودافع عن هذه القضية قادة سياسيون وكتاب ومفكرون وشعراء، مثل نجم الدين أربكان، ونجيب فاضل، وغيرهما. وبعبارة أخرى، فإن القضية ليست وليدة اليوم، أو مناورة انتخابية، علما بأن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا ستجرى بعد ثلاث سنوات.

قرار آيا صوفيا أمر سيادي وشأن داخلي تركي، إلا أنه في ذات الوقت يدل على مستوى القوة والاستقلالية الذي وصلت إليه تركيا في الآونة الأخيرة. وكان كثير من أعداء تركيا ومعارضي أردوغان يعتقدون بأن أنقرة لن تتجرأ على مثل هذه الخطوة، خوفا من ضغوط الدول الغربية وردودها، ويتحدَّون رئيس الجمهورية التركي أن يحوِّل آيا صوفيا إلى مسجد.

تركيا عاشت لعقود أزمة هوية، إلا أنها بدأت في السنوات الأخيرة تقدم خطوات نحو التغلب على تلك الأزمة. وهي اليوم تعود إلى هويتها الوطنية والإسلامية بعد تيه طويل؛ لأنها حققت قفزة نوعية في شتى المجالات، إلا أن بناء المستقبل والتقدم نحو أهدافه بخطى واثقة يتطلب بناء هوية تؤمن بتلك الأهداف وتحافظ على الإنجازات وتسعى إلى تحقيق مزيد منها.

ومن المؤكد أن إعادة فتح آيا صوفيا كمسجد لما يحمله من رمزية ومعان، ستسهم في تعزيز تلك الهوية الأصيلة التي بذلت قوى التغريب جهودا يائسة تهدف إلى اجتثاثها وطمس آثارها.

التصريحات التي يطلقها المسؤولون الأتراك ردا على الانتقادات، تشير إلى أن أنقرة استعدت لهذه الخطوة وما بعدها بشكل جيد. ولفت نائب وزير الخارجية التركي ياووز سليم كران، في تعليقه على انتقاد منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونسكو"، إلى أن استخدام آيا صوفيا كمسجد لا يتعارض مع اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي. وهددت المنظمة بإخراج آيا صوفيا من قائمة التراث العالمي بعد تحويله إلى مسجد، إلا أنها إن فعلت ذلك فسيكون تمييزا صارخا ضد المساجد والإسلام والمسلمين، تصنف جامع قرطبة ضمن القائمة على الرغم من تحويله إلى كاتدرائية كاثوليكية.

النقاش الدائر حول تحويل آيا صوفيا إلى مسجد كشف عن حقائق منسية، كما أنه سلط الضوء على ازدواجية المنتقدين لهذه الخطوة، وبدأ الحديث يدور حول مساجد تاريخية تم تحويلها إلى كنائس وملاه وحظائر في أوروبا وغيرها. ونشرت وكالة الأناضول للأنباء أرقاما تشير إلى أن لكل 461 غير مسلم دار عبادة في تركيا، في مقابل مسجد واحد لكل 2400 مسلم في فرنسا و2200 مسلم في ألمانيا، الأمر الذي يدل على احترام تركيا لحرية العبادة، وأن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، وفقا لوقفية السلطان محمد الفاتح، لا يمكن اعتباره تضييقا على الأقلية المسيحية وحرية العبادة.

وأما اليونان المعترضة على القرار، فهي آخر من يحق له الحديث في الموضوع، لأنها حوَّلت آلاف المساجد والمباني التاريخية التي تم تشييدها في العهد العثماني، إلى كنائس وسجون ودور سينما ومتاحف ومخازن. ولم يتم افتتاح مسجد في العاصمة اليونانية أثينا إلا قبل أشهر فقط، على الرغم من وجود حوالي 300 ألف مسلم في المدينة، وهو مبنى صغير بدون مئذنة، ولا يُسمح فيه برفع الأذان عبر مكبرات الأصوات.

تركيا استخدمت حقها السيادي في إطار القانون الدولي، ولم تنتهك أيا من الاتفاقيات التي وقعت عليها، ولا تستند كافة الانتقادات الموجهة إليها إلى أرضية شرعية أو أخلاقية، بل هي مبنية في معظمها على مواقف سياسية، لا صلة لها بالكنيسة ولا بالمسجد. ولو كانت علاقات تلك العواصم التي انتقدت القرار، جيدة مع أنقرة، لرحبت به. كما أن تركيا لم تعد تلك الدولة الضعيفة التي تخوِّفها التهديدات، وتتخلى عن حقوقها المشروعة تحت ضغوط الخارج، وتبالي بما يقوله كل من هب ودب.

twitter.com/ismail_yasa
التعليقات (0)