هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في اللقطات الأولى من مسلسل "Unnatural selection"، (ترجمته: انتقاء غير طبيعي)، تفاجئنا لقطات لفأر يضيء في الظلام، مثل بعض فصائل اليعاسيب المضيئة!
هكذا قرر صناع
المسلسل مباغتتنا وخطف انتباهنا خطفا!
يتناول المسلسل
ذو الحلقات الثلاث تقنية ثورية في عالم الهندسة الوراثية، هي تقنية كريسبر. وهي
تسمح لمهندسي التصميم الوراثي بتفكيك الجينوم البشري إلى شريط هائل متسلسل من
الرموز، وبقراءة تلك الرموز وفهمها بحيث يمكن معرفة كل جزء صغير ودوره في الوقاية من الإصابة
بأحد الأمراض، أو مسؤوليته عن نمو عضلات أو أنسجة معينة في الجسم. ببساطة، استطاع
الباحثون فهم كل جزء من ذلك الشريط الهائل المتسلسل، الذي هو الجينوم البشري، وما
يسببه من تأثير على وظائف الكائن الحي.
طوّر الباحثون
أدواتهم. فباستخدام أنواع معينة من البكتيريا تمكنوا من إنجاز خطوات أكثر خطورة:
التدخل في تكوين ذلك الشريط، بالتعرف على الجزء المطلوب، ثم قصه ولصق جزء آخر
مكانه بالضبط، عبر بكتيريا معدلة، يؤدي وظيفته لكن على نحو معدل.
مثلا إذا كان
المطلوب هو تقوية العضلات وزيادة حجمها، فلا داعي للذهاب إلى نوادي اللياقة، بل
يمكن حقن الجسد بمادة تحتوي على بكتيريا معدلة جينيا، تتوجه للجزء المسؤول عن
تكوين العضلات في جسم الإنسان، وتعدله بحيث تحل محل الجزء القديم؛ ما يؤدي مباشرة
إلى زيادة حجم العضلات. أي ثورة هذه؟!
بالطبع، تمتد
المسألة إلى حدود لا تخطر على بال أحد. فكلما كان الخيال جامحا استطاع تخيل الحدود
التي يمكننا الوصول إليها. بالطبع ثمة استخدامات مهمة لهذه التقنيات، مثل قهر
الأمراض الوراثية، وهي كثيرة، وكلها تنتقل عبر جينات موروثة، ويمكن بحقنة أو أكثر
تعديلها حتى لدى البالغين المصابين.
لا بد من
الإشارة إلى أن هذا السباق ليس بسيطا كما يبدو. فأولا ثمة رفض اجتماعي له. ما الذي
يمكن أن يصنعه البشر بقدرة كهذه؟ ومن الذي يضمن استخدامها في خير البشرية؟ ومن
الذي يحق له امتلاكها أصلا؟
من هنا يعالج
المسلسل قضية أخرى هامة: من الذي يملك مفاتيح اللعب؟ من البداية يعرض المسلسل
شقين: الشق الرسمي، المؤسساتي، حيث تطور بعض شركات الأدوية بعض العلاجات لأمراض
وراثية مستعصية، لكن أسعارها فادحة تماما، تبلغ عدة ملايين لعلاج مريض واحد..
والشق الآخر،
الذي يبدو للوهلة الأولى الوجه النظيف من العملة، هو ما يسمى "المخترقين
البيولوجيين" وهم باحثون مستقلون أو شركات صغيرة أسسها علماء أفراد، بجهود ذاتية،
من أهم هذه المؤسسات شركة أودين لمؤسسها الدكتور جوزايا زاينر، المتخصص في الهندسة
الوراثية، الذي عمل لدى ناسا لتعديل الخلايا البشرية بحيث يستطيع رواد الفضاء
البقاء مدة طويلة في ظروف قاسية مثل بيئة المركبات الفضائية خارج نطاق الجاذبية،
ثم ترك ناسا (وهذا اختيار شديد الغرابة في أمريكا) ليؤسس شركتته التي تحلم بترويج
المعرفة بالهندسة الوراثية وتعليمها للجميع، حتى إنه حقن نفسه بمادة تضخم العضلات
أمام جمهور من الحاضرين لمعاينة تجربته.
الفكرة التي
يرتكز عليها الدكتور جوزايا تبدو نبيلة للغاية. فهو يرى أن تعليم الناس العاديين
تقنية كريسبر هو الحل الوحيد لكسر احتكار الجهات المسيطرة عليها. هنا لن نخاف من
سيطرة مجموعات قوية على مجموعات أضعف، مثلا، بالتأثير عليها وراثيا بأي شكل. هذه
التقنية سلاح، إذن، لنعطه للجميع؛ هنا لن يسيطر الأقوى، فالأضعف مسلح مثله تماما.
لذا تبيع شركة أودين تجاربها على النت، وهي تقدم المواد والحقن المطلوبة وإرشادات
لتنفيذ التجربة، يستطيع أي مواطن شراءها.
يضرب المتحمسون
لهذا التوجه مثالا واضحا هو شركات الأدوية. وكعادة نتفليكس، فهي تتقصى بدقة وراء
الحقائق. يظهر على الشاشة متخصصون في المجال الطبي ويؤكدون أن كثيرا من شركات
الأدوية تنال تكاليف تجاربها من أموال دافع الضرائب الأمريكي، ومع ذلك تتقاضى
أسعارا فلكية عن أدويتها تلك، والحكومة لا تتدخل؛ إنها ليبرالية السوق!
مع ذلك، نكتشف
أن الوجه النظيف من العملة ليس نظيفا كما يبدو. فبعض المخترقين البيولوجيين مجرد
مستثمرين مغامرين، يجهلون مبادئ الهندسة الوراثية، ويحلمون باكتشاف أدوية بيولوجية
خارقة وبيعها بسرعة للمستهلكين، قبل إتمام التجارب الكافية عليها، التي هي تجارب
باهظة التكاليف وقد تستغرق سنوات طويلة. من أمثلة هؤلاء رجل الأعمال الشاب آرون
تريويك مؤسس شركة أسيندانس، التي حاولت ترويج عقار معدل وراثيا لعلاج الإيدز، قبل
التأكد من كفاءته.
تصطدم أحلام
البشر بسقوف الجشع واستسهال تكوين ثروات سريعة. فالشاب تريستين مصاب بالإيدز، وهو
مؤمن تماما بحق الفقراء في العلاج الرخيص الفعال، فقرر التطوع بتجربة علاج شركة
أسيندانس على نفسه، مع أن حالته آمنة نسبيا، ويوفر له تأمينه الصحي علاجا يقلل خطر
الإيدز على حياته. يغامر الشاب بحياته في سبيل حلم اكتشاف دواء رخيص لفقراء
العالم، ثم يكتشف مبكرا، لحسن الحظ، خطورة الدواء عليه، فيتوقف عن تلقي الجرعات،
وينتهي الأمر بآرون ميتا في أحد المنتجعات الصحية سنة 2018 بعد أن جرب عقارا على
نفسه، ذا جرعة عالية من مادة سامة.
من أروع ما
قدمه المسلسل قصص معاناة مفصلة لمرضى عولجوا بهذه التقنية. منهم الطفل جاكسون الذي
أصيب بخلل وراثي نادر أدى لفقد بصره بالتدريج، حتى ينتهي للعمى الكامل في طفولته.
يحلم جاكسون أن يكون أول رائد فضاء ينزل على سطح كوكب المريخ، وأثناء بحثه عن
معلومات حول الأمر، اكتشف أن ناسا تشترط قوة بصر روادها، فأحزنه ذلك لأنه كان يعلم
أن بصره آخذ في الانطفاء.
تابعنا مع أسرة
جاكسون استعداده للعملية لحقنه بالبكتيريا المطلوبة لتعديل جيناته، بحيث تستبدل
بالجزء المصاب منها جزءا سليما. ونجحت العملية وعاد لجاكسون بصره!
تابعنا أيضا
اكتشافات لم نكن نتخيلها منذ سنوات قليلة. ثمة عيادة في أمريكا تساعد الآباء على
إنجاب أطفال بمواصفات خاصة؛ بعيون زرقاء مثلا، مع أن عيون الوالدين بُنّية. بالطبع
ثمة عيادات تتدخل وراثيا في جينوم الأجنّة لإنقاذهم من أمراض وراثية لدى والديهم.
استعرض المسلسل
جهود عالم شاب استطاع هندسة جينوم معين يمكن حقنه في البعوض أو الفئران، ويعيد
إنتاج نفسه في جميع المواليد من نسل الكائن المعدل وراثيا، بحيث يؤدي ذلك إلى عُقم
البعوض مثلا، ومع انتشار الجين المعدل يتوقف تكاثر البعوض؛ وبذلك يتخلص البشر من مرض
الملاريا الذي يقتل الملايين من فقراء أفريقيا سنويا.
كما أنه يمكن أيضا
حقن الفئران التي تغزو جزر آيسلندا بسبب التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة
التي تساعدها على التأقلم مع الجزيرة فتقتل طيورها البرية التي تتحكم في الهرم
الغذائي هناك لأنها تقتات على الحشرات التي تسبب الآفات الزراعية. هكذا يؤدي
انتشار الفئران إلى هلاك الزرع وتدمير الحياة البرية. وبذلك، تضطر الدولة إلى
إبادة الفئران عبر المبيدات، وبطرق مكلفة وضارة وغير ناجحة أيضا، بينما حقن بعض
الفئران هناك وتركها، سوف يضمن فناء الفئران هناك، وهكذا.
على مدى
الحلقات أيضا، استعرض المسلسل كثيرا من وجهات النظر المؤيدة والمعارضة لفكرة
الهندسة الوراثية نفسها، ومدى تأثيرها على مستقبل الغذاء والدواء وصحة البشر،
والأهم: علاقات القوة بينهم، وكيفية تحطيم علاقات القوة المؤسَّسة لصالح الشركات
الكبرى من خلال إشاعة المعرفة وتمكين الناس منها، مع أن ذلك ينطوي على كثير من
مخاطر سوء الاستخدام.
وعلى نحو متقن،
وازن صناع المسلسل بين المكون العلمي المفصل والشهادات والمناقشات الأخلاقية وسرد
قصص إنسانية مؤثرة لمرضى يحلمون بالحياة الطبيعية. ولم يختر صناع المسلسل موقفا
أخلاقيا واضحا، بل تركونا في دوامة عنيفة من الأفكار والأحلام والكوابيس أيضا.