كتاب عربي 21

البؤساء..

طارق أوشن
1300x600
1300x600

خلال جولة تفقدية لأحد أحياء الضاحية الباريسية الفقيرة، حيث تعمل وحدة الجرائم الخطيرة، برئاسة الرقيب كريس ومعه الشرطي غوادا والزميل الجديد العريف ستيفان، يمر رجال الشرطة الثلاثة أمام مدرسة في فيلم (البؤساء ـ 2019) للمخرج لادج لاي.

كريس: أتعرف لم تسمى مدرسة فيكتور هيغو؟

ستيفان: لأنه كتب رواية البؤساء هنا.

كريس: هل قرأت الرواية؟

ستيفان: قرأتها على موقع المدينة. بالمقابل، لم تتغير الأمور كثيرا هنا.

كريس: باستثناء أن غافروش صار اسمه غافراشا، وكوزيت صارت كوزيتي التي تعمل والدتها في مكتب البريد حيث تشقى يوميا وتعود متعبة للبيت.

أسبوعان فقط فصلا بين "وفاة" إلياس الطاهري و"انتحار" مروان أبو عبيدة دون أن يثير الأمر حفيظة المنظمات الحقوقية والقضاء ومحامي الشعب الإسبان ولا السلطات المغربية المكلفة، نظريا، بالدفاع عن حقوق "رعاياها". إلياس ومروان شابان مغربيان فارقا الحياة بالأراضي الإسبانية قبل سنة تقريبا (تموز / يوليو 2019) بمركز إيواء للقاصرين بألميرية ومركز اعتقال للأجانب بفالنسيا. وفاة الأول كيفتها المحكمة "موتا عرضيا"، والثاني "انتحارا" دون بحث في الأسباب التي تكون محفزة عليه. وكاد الملفان يغلقان لولا أن جورج فلويد فارق الحيلة على يد شرطي أمريكي أجهز على رقبته خنقا حتى مات.

إلياس تعرض لنفس عملية الخنق وبالطريقة ذاتها تقريبا لمدة قاربت الثلاثة عشر دقيقة وهو مقيد اليدين ومحاطا بستة عناصر أمن بغرفة احتجاز صغيرة كانت جدرانها كفيلة بطمس الحقيقة بعد أن تواطأ القضاء وقبله الطب الشرعي الذي نفى عن القاصر المغربي وفاته اختناقا ليصير سبب الوفاة عدم انتظام في ضربات القلب نسخا للتقرير الطبي الأولي. الشرطة لا تسأل عما تفعل إسبانية كانت أو أمريكية. والقضاء والطب الشرعي في خدمتها تزويرا للحقائق وطمسا للأدلة. إلياس كان ضحية ما يسمى بـ "التقييد الميكانيكي الممدد"، وهي الطريقة التي يلجأ إليها رجال الأمن لتثبيت كل ما يقاومهم فعلا أو حسب أهواء الشرطة ورجالها.

بعد سنة كاملة من الحادث الإجرامي، سربت الصحافة الإسبانية فيديو يوثق لعملية "اغتيال" إلياس يفند أساس الرواية المختلقة التي بنت عليه المحكمة قرارها. لقد تعرض القاصر للتقييد الميكانيكي عكس كل الضوابط ودون أن يبدي مقاومة حتى لفظ أنفاسه اختناقا. لم يعتبر الأمر فضيحة يستقيل على إثرها الساسة والمسؤولون الأمنيون فالميت مجرد "مغربي قاصر"، غيره سبعة آلاف آخرين يقبعون في مراكز الإيواء، حياته لا أهمية لها عند الإسبان والمغاربة على حد سواء. 

 

في الأراضي المحتلة، لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص الحي، ولا أهمية مطلقا لتصوير مشاهد الإعدامات الميدانية فغيرها كثير في الأرشيف العالمي دونما عقاب.

 



ولأن جورج فلويد صار علامة عابرة للقارات، فقد عادت الحياة لقضيتي إلياس ومروان بعد أن دفنهما القضاء والأمن وأجهزة الدولة دون أن يجدا في العالم من يبكيهما أو يثور من أجل الحقيقة في قضيتيهما. البؤساء لا حظ لهم في الحياة كما الممات، وهو ما تؤكده قصتا الشابين الفلسطينيين إياد الحلاق وقبله مصطفى يونس اللذان لم يفصل بين تصفيتهما إلا أسابيع وبنفس الطريقة تقريبا. 

في الأراضي المحتلة، لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص الحي، ولا أهمية مطلقا لتصوير مشاهد الإعدامات الميدانية فغيرها كثير في الأرشيف العالمي دونما عقاب. الطفل محمد الدرة، كان قبل سنوات ووالده، "بطلا" شريط جاب العالم وتلقفته القنوات التلفزيونية و"قتلته" عرضا واستعادة بلا جدوى. انتهى الموضوع كلها بيافطات على جانب شوارع أو مؤسسات حملت اسم الضحية و"خلدته" في الأذهان رفعا للعتب على ما يبدو. 

اليوم لم يجد الحلاق غير صورة على جدار الفصل العنصري وعليها عبارة "ليس فلويد فقط.. إياد حلاق أيضا". حياة الفلسطينيين ليست مهمة بالطبع بالرغم من مسارعة بعض "القادة" الفلسطينيين للتغريد بالعبارة فهذا أقصى ما يملكون. تعرض إياد لإطلاق نار مباشر داخل حاوية للقمامة، وهو الذي يعاني من التوحد، غير بعيد عن المؤسسة التعليمية حيث يتابع نشاطه، وضاعت حقيقة مقتله بين رواية رجال الشرطة وشهود العيان. كانت الذريعة حمله مسدسا لم يظهر له أثر بعدها. أما مصطفى يونس فكان يعاني من مرض الصرع على مقربة من المستشفى، حيث ذهب يجرى فحصا نفسيا. مشهد الإعدام تم تصويره هذه المرة حيث أطلق عليه حراس الأمن النار بدعوى حمله سكينا. لن ينفع الفيديو المصور في إجلاء الحقيقة لأن الرواية يملكها المحتل رغما عن كل الفيديوهات. سياسة الأصبع الموضوع على الزناد واستسهال الضغط عليه عندما يكون الهدف فلسطينيا سياسة منهجية برعاية دولية وتحريض عربي.

عودة لفيلم البؤساء..

على إثر عملية اعتقال انتهت على غير المخطط لها، يحاول العريف ستيفان إنقاذ الموقف بالتفاوض مع صلاح، الإسلامي الذي يملك دليل الإثبات بعد تسلمه من الطفل باز.

ستيفان: لم يكن الضرر مقصودا. أُطلقت الرصاصة المطاطية قسرا.

صلاح: ما الذي تعنيه؟ كان مجرد حادث ولم يكن خطأكم؟ نمنحكم أسلحة ولا تعرفون كيف تستخدمونها.

ستيفان: لم أقصد هذا. إن انتشر الفيديو ستحترق الضاحية.

صلاح: وماذا لو كان التعبير عن السخط طريقتهم الوحيدة ليُسمٍعوا صوتهم. 

ستيفان: وماذا استفادوا من ثورتهم في العام 2005؟ لا شيء. أحرقوا كل السيارات ودمروا محطات الحافلات. واليوم، ما الذي تبقى؟ مجرد أعمدة. لا توجد حتى كراسي للجلوس. لقد انقلب الأمر ضدكم والأسوأ ألاّ أحد يهتم بالأمر.

 

فرنسا لم تكن بحاجة لقصة فلويد، فأمثاله بالعشرات قضوا تحت رحمة رجال الأمن وامتهنت كرامتهم على أساس اللون والعقيدة والانتماء للأحياء الهامشية على أطراف المدن الكبرى، حيث يستشري البؤس والإقصاء ويتمدد الإجرام

 



الشرطة هي القانون بل هي فوق القانون. وعندما خرجت التظاهرات بباريس ومدن فرنسية أخرى، تأسيا بنظيراتها في العالم على إثر مقتل جورج فلويد، أعلن وزير الداخلية الفرنسي عن التخلي عن تقنية "تقييد الرقبة" وعن تدريسها في مدارس الشرطة والدرك، وهي التقنية التي تستخدمها العناصر الأمنية لتثبيت المعتقلين لانطوائها على مخاطر. هي نفسها تقنية التقييد الميكانيكي الممدد التي قتلت إلياس بإسبانيا مع اختلاف بعض التفاصيل. لم تستسغ الشرطة الفرنسية ونقاباتها الأمر فاعتبروا ذلك تقييدا لأداء المهام وواجهه أعوان الأمن برمي الأصفاد في الشوارع والتظاهر بجادة الشانزليزيه. 

العنف ضرورة لاعتقال "الجانحين" ولا سلام بدون شرطة كما يقولون. فرنسا لم تكن بحاجة لقصة فلويد، فأمثاله بالعشرات قضوا تحت رحمة رجال الأمن وامتهنت كرامتهم على أساس اللون والعقيدة والانتماء للأحياء الهامشية على أطراف المدن الكبرى، حيث يستشري البؤس والإقصاء ويتمدد الإجرام. أداما تراوري، واحد من هؤلاء، اعتقله رجال الدرك قبل أربع سنوات ليخرج من مقر الأمن جثة هامدة تقاذفت التقارير الطبية مسؤولية وفاتها، والهدف كان تبرئة الأمنيين وهو ما تم بالفعل لولا أن المظاهرات الأمريكية المنددة بالعنصرية كان لها رأي آخر. 

اليوم، وبعد الضغط الشعبي عادت الحكومة عن غيها وأعادت فتح التحقيق لعل الأمر ينتهي بإنصاف الضحية ومعاقبة الجناة. من عادة الساسة التنازل أمام العاصفة حتى تمر والعودة إلى المربع الأول حيث الأمن والحفاظ على التوازنات الداخلية عقيدة لا زحزحة عنها. أما الجهاز الأمني فالقمع وسيلته الأكبر لإثبات الوجود وفرض الذات على الأرض في مواجهة "الثورات" والهبات الشعبية الظرفية التي تبدأ مع كل حادث قبل أن تخفت وتتلاشى. وحده الذاكرة تحتفظ بالرواية إن كتب لها الانفلات من المصادرة والإخفاء.

بعد مطاردة طويلة يتمكن رجال الشرطة الثلاثة من اعتقال الطفل عيسى، المتهم بسرقة شبل من سيرك للغجر. عيسى طفل من أصول إفريقية يحاول أصدقاؤه تحريره من قبضة الشرطة فتندلع معركة بين الجانبين. يتمكن عيسى من الإفلات وهو مكبل اليدين. لكن الشرطي غوادا، وهو من أبناء الضاحية أيضا، يبادره بطلقة رصاص مطاطي عن قرب. يسقط الطفل مغميا عليه. ويسود المكان صمت رهيب.

كريس: أعطني سلاحك. اللعنة!

يراقب الجميع الطفل المرمي دون قدرة على الحراك قبل أن يفطن كريس لوجود طائرة مسيرة صغيرة تصور المشهد من أعلى.

كريس: اللعنة! إنه يصورنا. (ثم يطلق النار على الطائرة الصغيرة).

ستيفان: ماذا سنفعل؟ اللعنة! إنه لا يزال يتنفس.

يحاول الاتصال بالهاتف.

كريس: ماذا تفعل؟

كريس: أطلب بالنجدة.

كريس: يا لغبائك. وماذا نخبرهم؟ أننا أطلقنا النار على طفل.

ستيفان: إنه يحتاج لتدخل جراحي سريع.

كريس: سنتولى أمره لاحقا. علينا مطاردة الطائرة المسيرة أولا. 

ستيفان: الطائرة المسيرة؟ الطفل فاقد للوعي.

كريس: غوادا، أنا أتحدث عنك وعنا. نحن فريق واحد. هذه هي أولويتنا. إن انتشر الفيديو سيقضى علينا. افعل ما أطلبه منك. هيا!

وتنطلق مطاردة الطائرة بعد أن يحملوا معهم الطفل المصاب في سيارة الشرطة.

الرصاص المطاطي هو ذاته الذي استخدمته الشرطة الفرنسية ضد متظاهري حركة السترات الصفراء وثار جدل كبير بخصوصه لما خلفه من ضحايا بالعشرات فقدوا أعينهم أو تشوهت وجوههم وصاروا معاقين. الدولة تعتبر أن من حقها الدفاع عن وجودها ولا تملك غير السلاح وسيلة باعتبارها محتكرة لاستخدامه "الشرعي". السلاح في الواقع ليس احتكارا نظاميا بل صار الحصول عليه في بعض المناطق أيسر من الحصول على قطعة خبز تسد رمق الجوعى. 

في ديجون الفرنسية دوما، كان استعراض القوة من الجالية الشيشانية، مدعومة من أبنائها بأوروبا، في مواجهة المغاربيين "صدمة" للفرنسيين. الشرطة غابت عن حماية الأحياء أو ربما تعمدت الغياب. لكنها عادت لمساءلة عدد من الذين توسطوا بين الجاليتين لإخماد الفتنة داخل مسجد وعلى أساس المذهب السني الذي يجمعها. لقد غابت الجمهورية وقوانينها وحل معها المذهب السنة بديلا لإنهاء القلاقل والصراعات. عندما تفقد الدولة السيطرة على مؤسساتها وتصبح عرضة لابتزاز أفرادها فالانهيار هو المآل لا ريب. يومها لن تنفع الخطابات المطمئنة ولا المزايدات السياسية في مواجهة ثورة "البؤساء".

كريس: تهانئي.. تعرضت للتوبيخ ثم تعتذر. أأنت موظف في مركز لخدمة العملاء؟

ستيفان: ألا يمكن أن نكون مهذبين؟

كريس: إن رغبت في ذلك فعليك بالعمل داخل قصر. أترى بريقا أو ذهبا هنا؟ لا تعتذر أبدا. إنك محق دوما.

غوادا: اخلع تلك الشارة الغبية (شارة الشرطة). الجميع يعرفون أننا رجال الشرطة هنا.

فعلا، هم يعرفون أنكم رجال الشرطة، وإن لم تكن الشرطة في خدمة الشعب فهذا معناه أنكم لستم آمنين. 

التعليقات (0)

خبر عاجل