قضايا وآراء

الأزمة السياسية في تونس: الواقع والآفاق

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

رغم كل ما تعيشه تونس من مشاكل اقتصادية وأزمات سياسية ومخاطر أمنية، يبقى الانتقال الديمقراطي (وما وفّره من حريات فردية وجماعية ومن احتكام إلى إرادة الناخبين) مكسبا يغبطها عليه أغلب العرب، سواء في الدول التي انتكس فيها الربيع العربي أو في تلك التي لم تصلها الموجات الارتدادية للثورة التونسية.

ولكن المشاكل التي عاناها الانتقال الديمقراطي في مرحلته "السياسية"، والتي يعاني منها الآن في مرحلته "الاقتصادية والاجتماعية"، تظل كابوسا مخيفا قد يغري البعض باستثماره للانقلاب على المنجز الديمقراطي الهش، وقد يغري آخرين بتوظيف الوضعية الحرجة التي تعيشها تونس لإدارة الأزمة (تحت غطاء الشرعية الانتخابية)، لكن مع تبرير عجزهم عن إيجاد حلول جذرية اتفق أغلب الفاعلين الجماعيين على أن المدخل إليها هو "محاربة الفساد".

ولعل التناقض الأكبر في الحالة التونسية هو أن أهم الفاعلين السياسيين الذين يُفترض بهم محاربة الفساد؛ قد أصبحوا هم أنفسهم (إلا نادرا) متهمين بالفساد أو على الأقل بالتواطؤ معه في الحد الأقصى، أو التغطية عليه والتساهل معه في الحد الأدنى.

 

 

التناقض الأكبر في الحالة التونسية هو أن أهم الفاعلين السياسيين الذين يُفترض بهم محاربة الفساد؛ قد أصبحوا هم أنفسهم (إلا نادرا) متهمين بالفساد أو على الأقل بالتواطؤ معه في الحد الأقصى، أو التغطية عليه والتساهل معه في الحد الأدنى

مقدمات فاسدة لا تعطي نتائج صحيحة

لقد انبنت مقدمة هذا المقال على استعادة "وصفية" لخطاب الحكومة (تجاوز الانتقال الديمقراطي في طوره السياسي إلى الانتقال الديمقراطي الاقتصادي والاجتماعي)، وكذلك لخطاب الفاعلين الجماعيين بسياسييهم ونقابييهم (أولوية ملف محاربة الفساد). ولكن تلك الخطابات تحتاج إلى مراجعة نقدية جذرية قد تنفع في خلخلة الوضع السائد واجتراح حلول أكثر فاعلية لإدارته وتجاوزه نحو آفاق أفضل.

فخطاب الحكومة يتأسس على فرضية لا يمكن التسليم بها (اكتمال الانتقال الديمقراطي في طوره السياسي) لأن الواقع يشهد على عكس ذلك. فإرساء المؤسسات الدستورية لم يكتمل بعد، خاصة إرساء المحكمة الدستورية، ولم يجر تغيير أعضاء الهايكا (الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري)، ولا أعضاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، فضلا عن مراجعة القوانين المنظمة لعمل هاتين الهيئتين المثيرتين للجدل من حيث المواقف والارتباطات. ولعل الأهم من ذلك هو أن الانتقال الديمقراطي، الاقتصادي والاجتماعي، سيظل مجرد أضغاث أحلام في ظل واقع سياسي ما زال رهين انقسامات واصطفافات "هوياتية" لا علاقة لها برهانات اللحظة ولا بأولوياتها.

أما ما يظهر من "إجماع وطني" على ضرورة محاربة الفساد، فإنه يخفي اختلافات كبيرة في تحديد موضوعه أو استراتيجياته. وهي اختلافات تشق الائتلاف الحزبي المشكل للحكومة وأحزاب المعارضة على حد سواء. فرغم المصداقية التي يتمتع بها الوزير المسؤول عن مكافحة الفساد والحَوكمة (السيد محمد عبّو)، ورغم بعض الملفات التي فتحها لمحاربة الفساد وتبيان جدية الحكومة في التعاطي مع شبكات الفساد الإدارية والسياسية، فإن بعض الشكوك المشروعة ما زالت تحوم حول قدرته على فتح ملف الفساد النقابي، المدني والأمني، خاصة بعد تشكيل حزب التيار الديمقراطي كتلة برلمانية واحدة مع حركة الشعب، وهي حركة قومية ذات علاقات نوعية بالنقابة، ولا تخفي ميلها للمحور الإماراتي السعودي، ولا عداءها لحركة النهضة رغم أنها جزء من الحكومة.

 

 

 

ما يظهر من "إجماع وطني" على ضرورة محاربة الفساد، فإنه يخفي اختلافات كبيرة في تحديد موضوعه أو استراتيجياته. وهي اختلافات تشق الائتلاف الحزبي المشكل للحكومة وأحزاب المعارضة على حد سواء


 هل هي حكومة "وحدة وطنية"؟


إن تركيبة الحكومة ذاتها هي عنصر "لا وظيفي" في مشروع محاربة الفساد، أو في الدفع نحو الاستقرار السياسي اللازم لمواجهة اللوبيات المالية والجهوية والنقابية والإقليمية المتنفذة من وراء الستار.

فالحكومة لا تعكس انبثاق "كتلة تاريخية" بالمعنى الغرامشي، رغم تشكلها من العائلات السياسية والأيديولوجية الكبرى (اليساريون والإسلاميون والقوميون والتجمعيون الجدد أو الدساترة كما يُسمون أنفسهم)، كما أنها لا تتأسس على تفاهمات جدية أو تسويات قابلة للحياة. إنها أقرب إلى حكومة "الضرورة" التي تبدو عاجزة عن بناء توافقات صلبة، سواء في إدارة الملفات الداخلية أو الخارجية. وهو ما نعتبره مظهرا من مظاهر فشل الانتقال الديمقراطي في طوره السياسي، أي استمرار الأنساق السياسية ذاتها دون أية مراجعات أو نقد ذاتي. ولن يكون الجمع بين تلك الأنساق في حكومة "وحدة وطنية" إلا ضربا من الترصيف، أو من بناء علاقات التجاور التي لا يعني اشتراك أحزابها في الحكومة وجود مشروع موحّد للحكم.

لقد أثبتت اللائحة التي تقدمت بها زعيمة الحزب الدستوري الحر (المعروف في مواقع التواصل الاجتماعي بـ"حزب البوليس السياسي" أو "حزب محور الشر") وجود انقسامات عميقة بين الأطراف المشكلة للحكومة، وهي انقسامات تجعل من العبثي بناء توصيف للحقل السياسي التونسي على أساس ثنائية الحكومة/ المعارضة.

كما أثبتت تلك اللائحة رغم الفشل في تمريرها (لأنها لم تتحصل على عدد النواب اللازم لذلك وهو 109 نائبا)، أنّ أمام حركة النهضة، كما قال الناشط السياسي والباحث رياض الشعيبي، "مراجعات كبيرة للخروج من عزلتها السياسية". فالنهضة "التوافقية" ما زالت بعيدة عن تكوين تحالفات استراتيجية تتجاوز الحزام الإسلامي أو القريب من الإسلاميين، ويمثله أساسا ائتلاف الكرامة.

 

النهضة "التوافقية" ما زالت بعيدة عن تكوين تحالفات استراتيجية تتجاوز الحزام الإسلامي أو القريب من الإسلاميين، ويمثله أساسا ائتلاف الكرامة

ونحن هنا لسنا في وارد تقييم أداء حركة النهضة ولا خصومها أو أعدائها، ولكننا فقط نريد الإشارة من جهة أولى إلى هشاشة التركيبة الحكومية، ومن جهة ثانية إلى أثر هذه الهشاشة في أي مشروع لمكافحة الفساد أو بناء مشروع وطني جامع.

المأزق السياسي واستحالة التجاوز في المدى المنظور

ختاما، قد يكون من الصعب إنكار وجود أزمة بنيوية تخترق الحقل السياسي التونسي، بل تخترق المجتمع كله في مختلف مجالات نشاطه المادي والرمزي، ولكن الأصعب من ذلك هو الركون إلى الخطابات الواصفة لهذه الأزمة أو تلك التي تطرح بدائل لتجاوزه.

فرغم اختلاف دوافع تلك "البدائل" وتناقض أطروحات أصحابها، ما بين راغب في توسيع الحزام الحكومي بإدخال حزب قلب تونس، وبين راغب في تعديل النظام السياسي أو حتى الانقلاب عليه، فإنها تظل جميعا بدائل ملتبسة وغير فعالة في مشروع مكافحة الفساد في الحد الأدنى، وتظل كذلك فاشية أو انقلابية في حدها الأقصى. وهو ما يعني أنّ المصادرة على استكمال الانتقال الديمقراطي في طوره السياسي، رغم ما فيه من نقائص جوهرية، واختزال الفساد في بعده الاقتصادي، دون توسيعه إلى مستوى الفساد القيمي المرتبط بثقافة"النمط المجتمعي التونسي"، وكذلك الفساد الأيديولوجي الذي ما زال يحول بين أغلب الأحزاب وبين رهانات اللحظة التاريخية.. كل ذلك سيجعل من الصعب النجاح في ملف محاربة الفساد، وإن كانت الحكومة قادرة على تحقيق بعض النجاحات السطحية التي لن تؤثر جديا في بنية الفساد وفي سطوة لوبياته السياسية والمالية والنقابية والإعلامية.

twitter.com/adel_arabi21

التعليقات (1)
adem
الجمعة، 05-06-2020 05:05 م
نظريا كلامك جميل منطقي مقبول و لكن هناك فرق بين الأماني و الواقع السّؤال من يملك مفاتيح حلّ العقدة ؟ ليس من السهل أن تواجه فرنسا بتاريخها الأسود و لا دويلات أحفاد أبي لهب و أُبَيْ بملاييرها و دعك من وكلائهم في الداخل هذا من جهة ، من جهة أخرى تتحدّث عن محاربة الفساد ذوي الجذور العميقة المشبوهة تحت حماية منظومة مكتملة من المدافعين عنها في مختلف أجهزة الدولة من أمن !!! قضاء !!! إعلام !!! و ......زد على ذلك أنت تنتظر من الطبقة السياسية القيام بذلك و التي جزء لا بأس منها من منظومة الفساد بحدّ ذاته هدفها الوجودي حركة النهضة و فقط . التوانسة بعد الثورة اختاروا العفو عن تلك الطبقة الإجرامية و دمجهم في السياسة مجدّدا و قد اعتبروا ذلك نجاحا و ميزة للثورة وانظروا أين وصلت بهم الوقاحة و الدّعارة السياسية محاولة إقصاء الشرفاء الأطهار الأخيار !!!!! في حين اعتبره غيركم خطأ سياسي قاتل تدفعون ثمنه الآن منظومة حكم هزيلة فساد أزمة اقتصادية اجتماعية خانقة ما سيدفع الناس من قلّة الوعي وقلّة صبرهم إلى الكفر بالثورة و السياسة ، القضية و الله جدّ معقّدة الحل ّ ؟ عبقرية سياسية من النهضة و الوطنيين المخلصين وعيّ شعبيّ كبير بمتطلّبات المرحلة إلى أن تسقط الثّورة المضادّة بالضربة القاضية القاتلة قريبا بإذن الله تعالى .